قَالَ النَّوَوِيُّ. وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَمَّ بِالْكِتَابِ حِينَ ظَهَرَ لَهُ أَنَّهُ مَصْلَحَةٌ أَوْ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ، ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ تَرْكُهُ أَوْ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ وَنُسِخَ، وَأَمَّا قَوْلُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: حَسْبُكُمْ كِتَابُ اللَّهِ، فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ مِنْ دَلَائِلِ فِقْهِهِ وَفَضَائِلِهِ وَدَقَائِقِ نَظَرِهِ وَفَهْمِهِ، لِأَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يَكْتُبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُمُورًا رُبَّمَا عَجَزُوا عَنْهَا، وَاسْتَحَقُّوا الْعُقُوبَةَ عَلَيْهَا لِكَوْنِهَا مَنْصُوصَةً لَا مَجَالَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهَا، وَأَشَارَ قَوْلُهُ: حَسْبُكُمْ كِتَابُ اللَّهِ إِلَى قَوْلِهِ: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] .

(قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ) ، أَيِ: ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ الْهُزَلِيُّ، وَلَدُ أَخِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَهُوَ أَحَدُ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ، سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ وَخَلْقًا كَثِيرًا مِنَ الصَّحَابَةِ. (فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: إِنَّ الرَّزِيئَةَ) : بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الزَّايِ بَعْدَهَا يَاءٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ هَمْزَةٌ، وَقَدْ يُسَهَّلُ فَتُشَدَّدُ الْيَاءُ عَلَى مَا فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ أَيِ الْمُصِيبَةَ (كُلَّ الرَّزِيئَةِ) ، أَيْ: تَمَامَهَا وَكَمَالَهَا (مَا حَالَ) ، أَيِ: الْحَالُ الَّذِي وَقَعَ حَائِلًا وَصَارَ مَانِعًا (بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيْنَ أَنْ يَكْتُبَ ذَلِكَ الْكِتَابَ لِاخْتِلَافِهِمْ وَلَغَطِهِمْ) . مُتَعَلِّقٌ بِحَالَ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَالَ إِلَى خِلَافِ مَا قَالَ عُمَرُ، وَمَنْ تَبِعَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ فَتَدَبَّرْ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ: إِنَّمَا قَصَدَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِذَلِكَ التَّخْفِيفَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ غَلَبَ الْوَجَعُ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ مُرَادُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَكْتُبَ مَا لَا يَسْتَغْنُونَ عَنْهُ لَمْ يَتْرُكْهُ لِاخْتِلَافِهِمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67] كَمَا لَمْ يَتْرُكِ التَّبْلِيغَ لِمُخَالَفَةِ مَنْ خَالَفَهُ، وَمُعَادَاةِ مَنْ عَادَاهُ، وَكَمَا أَمَرَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ بِإِخْرَاجِ الْيَهُودِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ يَعْنِي بِمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ. قَالَ: وَقَدْ حَكَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَبْلَهُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ اسْتِخْلَافَ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ اعْتِمَادًا عَلَى عِلْمِهِ مِنْ تَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى ذَلِكَ، كَمَا هَمَّ بِالْكِتَابَةِ فِي أَوَّلِ مَرَضِهِ حِينَ قَالَ: وَارَأْسَاهْ! ثُمَّ تَرَكَ الْكِتَابَةَ وَقَالَ: ( «يَأْبَى اللَّهُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ» ) وَذَلِكَ بِسَبَبِ اسْتِخْلَافِهِ أَبَا بَكْرٍ فِي الصَّلَاةِ. وَقَالَ: أَيْضًا: وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ بَيَانَ أَحْكَامِ الدِّينِ وَرَفْعَ الْخِلَافِ فِيهَا فَقَدْ عَلِمَ عُمَرُ حُصُولَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا تَقَعُ وَاقِعَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلَّا وَفِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بَيَانُهَا نَصًّا أَوْ دَلَالَةً، وَفِي تَكَلُّفِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَرَضِهِ مَعَ شِدَّةِ وَجَعِهِ كِتَابَهُ ذَلِكَ مَشَقَّةٌ، فَرَأَى الِاقْتِصَارَ عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ تَخْفِيفًا عَلَيْهِ، وَلَا يَنْسَدُّ بَابُ الِاجْتِهَادِ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ وَالِاسْتِنْبَاطِ، وَإِلْحَاقِ الْفُرُوعِ بِالْأُصُولِ ; فَرَأَى عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ الصَّوَابَ تَرْكُ الْكِتَابَةِ تَخْفِيفًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفَضِيلَةً لِلْمُجْتَهِدِينَ، وَفِي تَرْكِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْإِنْكَارَ عَلَى عُمَرَ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِصْوَابِ رَأْيِهِ، وَكَانَ عُمَرُ أَفْقَهَ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُوَافِقِيهِ.

(وَفِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي مُسْلِمٍ الْأَحْوَلِ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ خَالُ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ تَابِعِيٌّ مِنْ أَثْبَاتِ الْحِجَازِيِّينَ وَأَئِمَّتِهِمْ سَمِعَ طَاوُسًا وَأَبَا سَلَمَةَ. وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَشُعْبَةُ. (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ؟ يَوْمُ الْخَمِيسِ) : مَرْفُوعٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَوْ عَكْسُهُ وَقَوْلُهُ: (وَمَا يَوْمُ الْخَمِيسِ) ؟ يُسْتَعْمَلُ عِنْدَ إِرَادَةِ تَفْخِيمِ الْأَمْرِ وَالشِّدَّةِ وَالتَّعَجُّبِ مِنْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْحَاقَّةُ - مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة: 1 - 2] وَ {الْقَارِعَةُ - مَا الْقَارِعَةُ} [القارعة: 1 - 2] (ثُمَّ بَكَى) ، أَيِ: ابْنُ عَبَّاسٍ (حَتَّى بَلَغَ دَمْعُهُ الْحَصَى) ، أَيْ حَتَّى سَالَتْ دُمُوعُهُ بِلَا إِحْصَاءٍ، وَوَصَلَتْ إِلَى مَا فِي الْأَرْضِ مِنَ الْحَصَى، ثُمَّ بُكَاؤُهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِتَذَكُّرِ وَفَاتِهِ، وَفُقْدَانِ حَيَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَجَدُّدِ الْحُزْنِ عَلَيْهِ، أَوْ لِفَوَاتِ مَا فَاتَ فِي مُعْتَقَدِهِ مِنَ الْخَيْرِ الَّذِي كَانَ يَحْصُلُ لَوْ كَانَ كُتِبَ ذَلِكَ الْكِتَابُ، وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ فِي الْمَقَامِ وَالْأَنْسَبُ فِيمَا أَرَادَهُ مِنَ الْمَرَامِ. (قُلْتُ:؟ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ! وَمَا يَوْمُ الْخَمِيسِ) ؟ قَالَ مِيرَكُ: قَائِلُهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ الرَّاوِي، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَظَاهِرُ إِيرَادِ الْمُصَنِّفِ يَقْتَضِي أَنَّ قَائِلَهُ سُلَيْمَانُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَهَذَا ظَاهِرٌ مِنْ سِيَاقِ الْبُخَارِيِّ (قَالَ: اشْتَدَّ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَعُهُ) ، أَيْ: فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015