وَقَالَ النَّوَوِيُّ: غَضَبُ اللَّهِ تَعَالَى وَرِضَاهُ يَرْجِعَانِ إِلَى الْمُطِيعِ إِثَابَةً وَعِقَابِ الْعَاصِي، وَالْمُرَادُ بِالسَّبْقِ هُنَا وَالْغَلَبَةِ فِي أُخْرَى كَثْرَةُ الرَّحْمَةِ وَشُمُولِهَا، كَمَا يُقَالُ: غَلَبَ عَلَى فُلَانٍ الْكَرَمُ وَالشَّجَاعَةُ، إِذَا كَثُرَ مِنْهُ. أَقُولُ: وَلَوْ أُبْقِيَا عَلَى حَقِيقَتِهِمَا مِنْ غَيْرِ إِرَادَةِ الْمَجَازِ جَازَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ رَحْمَتَهُ تَعَالَى سَابِقَةٌ عَلَى غَضَبِهِ بِاعْتِبَارِ التَّعَلُّقِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ أَحَدٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ، فَإِنَّ أَوَّلَ الرَّحْمَةِ نِعْمَةُ الْإِيجَادِ، ثُمَّ نِعْمَةُ الْإِمْدَادِ، فَلَا يَخْلُو عَنِ النِّعْمَتَيْنِ أَحَدٌ مِنَ الْعِبَادِ، وَكَذَا مِنَحُهُ سُبْحَانَهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مِحَنِهِ غَالِبَةٌ كَثِيرَةٌ شَامِلَةٌ لِعُمُومِ الْخَلَائِقِ، سَوَاءٌ مَنْ أَطَاعَهُ أَوْ عَصَاهُ فِي الْبِلَادِ.

قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ أَنَّ مَفْتُوحَةً بَدَلًا مِنْ كِتَابًا، وَمَكْسُورَةً حِكَايَةً لِمَضْمُونِ الْكِتَابِ، وَهُوَ عَلَى وَزْنِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54] أَيْ أَوْجَبَ وَعْدًا أَنْ يَرْحَمَهُمْ قَطْعًا بِخِلَافِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مُقْتَضَى الْغَضَبِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى غَفُورٌ كَرِيمٌ يَتَجَاوَزُ عَنْهُ بِفَضْلِهِ، وَأَنْشَدَ:

وَإِنِّي إِذَا أَوْعَدْتُهُ أَوْ وَعَدْتُهُ ... لَمُخْلِفُ إِيعَادِي وَمُنْجِزُ مَوْعِدِي

فَالْمُرَادُ بِالسَّبْقِ هُنَا الْقَطْعُ لِوُقُوعِهَا. قُلْتُ: لَا بُدَّ وَأَنْ يُخَصَّ بِالْمُؤْمِنِينَ مِمَّنْ تُعَلَّقُ الْمَشِيئَةُ بِمَغْفِرَتِهِمْ وَسَبْقُ الْإِرَادَةِ بِرَحْمَتِهِمْ، وَإِلَّا فَعَذَابُ الْكَافِرِ مَقْطُوعُ الْوُقُوعِ، بَلْ وَاجِبُ الْحُصُولِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48] وَالتَّخَلُّفُ فِي خَبَرِهِ غَيْرُ جَائِزٍ قَطْعًا، وَقَدْ حَرَّرْتُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي خُصُوصِ رِسَالَةٍ سَمَّيْتُهَا بِـ " الْقَوْلُ السَّدِيدِ فِي خَلْقِ الْوَعِيدِ ". (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)

طور بواسطة نورين ميديا © 2015