عَلَى الصِّرَاطِ وَسُقُوطِ الْبَعْضِ فِي النَّارِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: حَتَّى: غَايَةُ قَوْلِهِ مَكْدُوسٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، أَيْ: يَبْقَى الْمَكْدُوسُ فِي النَّارِ حَتَّى يَخْلُصَ بَعْدَ الْعَذَابِ بِمِقْدَارِ ذَنْبِهِ، أَوْ بِشَفَاعَةِ أَحَدٍ، أَوْ بِفَضْلِهِ سُبْحَانَهُ، وُضِعَ الْمُؤْمِنُونَ مَوْضِعَ الرَّاجِعِ إِلَى الْمَكْدُوسِ إِشْعَارٌ بِالْعِلِّيَّةِ وَأَنَّ صِفَةَ الْإِيمَانِ مُنَافِيَةٌ لِلْخُلُودِ فِي النَّارِ. (فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) : جَوَابُ إِذَا (مَا مِنْ أَحَدٍ مِنْكُمْ) : خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَقَوْلُهُ: (بِأَشَدَّ) خَبَرُ مَا، وَقَوْلُهُ: (مُنَاشَدَةً) مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ، أَيْ: أَشَدَّ مُطَالَبَةً وَمُنَاظَرَةً، وَقَوْلُهُ: (فِي الْحَقِّ) ظَرْفٌ لِلْمُنَاشَدَةِ، (وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ) : صِفَةٌ لِلْحَقِّ ; لِأَنَّهُ فِي الْمَعْنَى نَكِرَةٌ، أَيْ: فِي حَقٍّ قَدْ تَبَيَّنَ وَظَهَرَ لَكُمْ عَلَى خَصْمِكُمْ، أَوْ حَالٌ إِمَّا مِنَ الضَّمِيرِ فِي أَشَدَّ، وَإِمَّا مِنَ الْحَقِّ. وَقَالَ شَارِحٌ: حَالٌ مِنَ الْحَقِّ، وَالتَّقْدِيرُ: مَا مِنْ أَحَدٍ مِنْكُمْ بِأَشَدَّ مُنَاشَدَةً فِي حَالِ أَنْ تَبَيَّنَ لَكُمُ الْأَمْرُ الْحَقُّ، وَقَوْلُهُ: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) مُتَعَلِّقٌ بِأَشَدَّ، أَيْ: بِأَشَدَّ مُنَاشَدَةً مِنْكُمْ، فَوَضَعَ الْمُظْهَرَ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ، وَقَوْلُهُ: (لِلَّهِ) مُتَعَلِّقٌ بِمُنَاشَدَةٍ، وَقَوْلُهُ: (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ظَرْفُ أَشَدَّ، أَيْ: يُنَاشِدُونَ اللَّهَ (لِإِخْوَانِهِمْ) أَيْ: لِأَجْلِ إِخْوَانِهِمْ (الَّذِينَ فِي النَّارِ) ، بِالشَّفَاعَةِ مِنَ الْجَبَّارِ الْغَفَّارِ.
قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: مَعْنَاهُ مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يُنَاشِدُ اللَّهَ فِي الدُّنْيَا فِي اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ وَاسْتِقْصَائِهِ، وَتَحْصِيلِهِ مِنْ جِهَةِ خَصْمِهِ وَالْمُعْتَدَى عَلَيْهِ بِأَشَدَّ مِنْكُمْ مُنَاشَدَةً لِلَّهِ تَعَالَى فِي الشَّفَاعَةِ لِإِخْوَانِكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ شَارِحٌ مِنْ عُلَمَائِنَا: مَعْنَاهُ مَا مِنْ أَحَدٍ مِنْكُمْ أَكْثَرُ اجْتِهَادًا وَمُبَالَغَةً فِي طَلَبِ الْحَقِّ حِينَ ظَهَرَ لَكُمُ الْأَمْرُ الْحَقُّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي طَلَبِ خَلَاصِ إِخْوَانِهِمُ الْعُصَاةِ فِي النَّارِ مِنَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ بَيَّنَ مُنَاشَدَتَهُمْ بِقَوْلِهِ: (يَقُولُونَ رَبَّنَا كَانُوا يَصُومُونَ مَعًا) أَيْ: مُوَافِقِينَ لَنَا (وَيُصَلُّونَ) أَيْ: صَلَاتَنَا (وَيَحُجُّونَ) أَيْ: عَلَى طَرِيقَتِنَا (فَيُقَالُ لَهُمْ: أَخْرِجُوا مَنْ عَرَفْتُمْ) أَيْ: بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ، (فَتُحَرَّمُ) : بِفَتْحِ الرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ، أَيْ: فَتُمْنَعُ (صُوَرُهُمْ) أَيْ: تَغَيُّرُهَا (عَلَى النَّارِ) أَيْ: بِأَنْ تَأْكُلَهَا أَوْ تُسَوِّدَهَا بِحَيْثُ لَا تُعْرَفُ وُجُوهُهُمْ، فَيَعْرِفُهُمُ الْمُؤْمِنُونَ الشَّافِعُونَ بِسِيمَاهُمْ، (فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا) أَيْ: مِنْهَا (ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبَّنَا مَا بَقِيَ فِيهَا أَحَدٌ فِيهَا مِمَّنْ أَمَرْتَنَا بِهِ) أَيْ: بِإِخْرَاجِهِ مِنْ أَرْبَابِ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ، (فَيَقُولُ: ارْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ دِينَارٍ) أَيْ: مِقْدَارَهُ (مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ) ، فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ: قِيلَ: مَعْنَى الْخَيْرِ هُنَا الْيَقِينُ. قَالَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ مَعْنَاهُ شَيْءٌ زَائِدٌ عَلَى مُجَرَّدِ الْإِيمَانِ ; لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ التَّصْدِيقُ لَا يَتَجَزَّأُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ هَذَا التَّجْزِيءُ بِشَيْءٍ زَائِدٍ عَلَيْهِ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ، أَوْ ذِكْرٍ خَفِيٍّ، أَوْ عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ الْقَلْبِ مِنَ الشَّفَقَةِ عَلَى مِسْكِينٍ، أَوْ خَوْفٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَنِيَّةٍ صَادِقَةٍ، ( «فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا. ثُمَّ يَقُولُ: ارْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ نِصْفَ مِثْقَالِ دِينَارٍ مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا، ثُمَّ يَقُولُ: ارْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا، ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبَّنَا لَمْ نَذَرْ» ) أَيْ: لَمْ نَتْرُكَ (فِيهَا) أَيْ: فِي جَهَنَّمَ (خَيِّرًا) أَيْ: أَهْلَ خَيْرٍ.
قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ مَنْ كَانَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ثَمَرَاتِ الْإِيمَانِ، مِنِ ازْدِيَادِ الْيَقِينِ، أَوِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَوَضَعَ الْخَيْرَ مَوْضِعَ الذَّاتِ، كَمَا يُوضَعُ الْعَدْلُ مَوْضِعَهُ مُبَالَغَةً، أَيْ: فَيُقَالُ رَجُلٌ عَدْلٌ، وَأُرِيدَ بِهِ الْمَعْنَى الْمَصْدَرِيُّ مُبَالَغَةً عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى كَأَنَّهُ هُوَ، بَلْ هُوَ هُوَ مَعَ أَنَّهُ قَدْ يُقَالُ: إِنَّ الْعَدْلَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْعَادِلِ، أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ أَيْ صَاحِبُ عَدْلٍ، نَحْوَ قَوْلِهِ: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (فَيَقُولُ اللَّهُ: شُفِّعَتِ الْمَلَائِكَةُ، وَشُفِّعَ النَّبِيُّونَ، وَشُفِّعَ الْمُؤْمِنُونَ،