وَدُخُولِهِمْ فِيهَا، وَجَعَلَ كُلَّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ التَّلْبِيسِ مَنْزِلَةَ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ جَهَنَّمَ (مَنْ أَجَابَهُمْ) أَيِ الدُّعَاةِ (" إِلَيْهِ ") أَيْ: إِلَى جَهَنَّمَ، يَعْنِي: إِلَى الضَّلَالَةِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَيْهَا (" قَذَفُوهُ فِيهِ ") ، أَيْ: رَمَوْهُ وَصَارُوا سَبَبًا لِقَذْفِهِ فِي جَهَنَّمَ. قِيلَ: الْمُرَادُ بِالدُّعَاةِ مَنْ قَامَ فِي طَلَبِ الْمُلْكِ مِنَ الْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ، وَغَيْرِهِمَا مِمَّنْ لَمْ يُوجَدْ فِيهِمْ شُرُوطُ الْإِمَارَةِ وَالْإِمَامَةِ وَالْوِلَايَةِ، وَجُعِلُوا دُعَاةً عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ بِاعْتِبَارِ الْمَآلِ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10] ، وَقِيلَ: هُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ - وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 13 - 14] ، فَكَأَنَّهُمْ كَائِنُونَ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، دَاعِينَ النَّاسَ إِلَى الدُّخُولِ فِي ضِيَافَتِهِمْ ; أَوْ لِأَنَّ الْمُبَاشِرَ بِسَبَبِ شَيْءٍ، فَكَأَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِ دَاخِلٌ فِيهِ.
(قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! صِفْهُمْ لَنَا) ، أَيْ: إِنَّهُمْ مِنَّا أَوْ مِنْ غَيْرِنَا؟ (قَالَ: " هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا ") ، أَيْ: مِنْ أَنْفُسِنَا وَعَشِيرَتِنَا، كَذَا فِي النِّهَايَةِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ مِنْ أَهْلِ مِلَّتِنَا، ذَكَرَهُ الْأَشْرَفُ، وَهُوَ الْأَلْطَفُ، وَقِيلَ: مِنْ أَبْنَاءِ جِنْسِنَا، وَفِيهِ أَنَّ الْجِلْدَةَ أَخَصُّ مِنَ الْجِلْدِ، وَجِلْدُ الشَّيْءِ ظَاهِرُهُ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ غِشَاءُ الْبَدَنِ. (" وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا ") أَيْ: بِالْعَرَبِيَّةِ، أَوْ بِالْمَوَاعِظِ وَالْحِكَمِ، أَوْ بِمَا قَالَ اللَّهُ وَقَالَ رَسُولُهُ، وَمَا فِي قُلُوبِهِمْ شَيْءٌ مِنَ الْخَيْرِ، يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ، (قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي) أَيْ: أَنْ أَفْعَلَ بِهِ فِيهِمْ (إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟) أَيْ ذَلِكَ الزَّمَانُ (قَالَ: " تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ ") أَيْ: طَرِيقَتَهُمْ وَحُضُورَ جُمْعَتِهِمْ وَجَمَاعَتِهِمْ (" وَإِمَامَهُمْ ") أَيْ: وَرِعَايَةَ إِمَامِهِمْ وَمُتَابَعَتَهُمْ وَمُسَاعَدَتَهُمْ، (قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ) أَيْ: مُتَّفِقَةٌ (وَلَا إِمَامٌ؟) أَيْ: أَمِيرٌ يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ فَقْدَهُمَا أَوْ فَقْدَ أَحَدِهِمَا (قَالَ: " فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا ") ، أَيِ: الْفِرَقُ الضَّالَّةُ الْوَاقِعَةُ عَلَى خِلَافِ الْجَادَّةِ مِنْ طَرِيقِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، (" وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ ") أَيْ: وَلَوْ كَانَ الِاعْتِزَالُ بِالْعَضِّ، وَأَنْ: مَصْدَرِيَّةٌ، وَتَعَضَّ: مَنْصُوبٌ فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ وَالْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ، وَقِيلَ: إِنْ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الْمُثَقَّلَةِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ: تَمَسَّكْ بِمَا يُصَبِّرُكَ وَتَقْوَى بِهِ عَلَى اعْتِزَالِكَ، وَلَوْ بِمَا لَا يَكَادُ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُتَمَسَّكًا. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هَذَا شَرْطٌ يُعَقَّبُ بِهِ الْكَلَامُ تَتْمِيمًا وَمُبَالَغَةً، أَيِ: اعْتَزِلِ النَّاسَ اعْتِزَالًا لَا غَايَةَ بَعْدَهُ، وَلَوْ قَنَعْتَ فِيهِ بِعَضِّ أَصْلِ الشَّجَرِ افْعَلْ فَإِنَّهُ خَيْرٌ لَكَ، (" حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ ") أَيْ: عَلَى مَا ذَكَرْتُ مِنَ الِاعْتِزَالِ أَوِ الْعَضِّ أَوِ الْخَيْرِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ) ، قَالَ مِيرَكُ: أَخْرَجَ مُسْلِمٌ هَذِهِ الرِّوَايَةَ عَقِبَ الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَلَّامٍ عَنْ حُذَيْفَةَ، وَذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ أَنَّ أَبَا سَلَّامٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ حُذَيْفَةَ ; وَلِذَلِكَ قَالَ فِيهِ قَالَ حُذَيْفَةُ ; فَيَكُونُ الْحَدِيثُ مُنْقَطِعًا، وَقَالَ بَعْضُ الْحُفَّاظِ: إِنَّمَا لَمْ يُخَرِّجِ الْبُخَارِيُّ لِأَبِي سَلَّامٍ شَيْئًا فِي صَحِيحِهِ لِأَنَّ رِوَايَاتِهِ مُرْسَلَةٌ، اهـ. وَأَبُو سَلَّامٍ: اسْمُهُ مُمْطِرٌ الْأَسْوَدُ الْحَبَشِيُّ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: مَا قَالَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ صَحِيحٌ، وَلَكِنَّ الْمَتْنَ صَحِيحٌ بِالطَّرِيقِ الْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا أَتَى مُسْلِمٌ بِهَا مُتَابَعَةً ; فَإِنَّ الْمُرْسَلَ إِذَا أَتَى مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ تَبَيَّنَ بِهِ صِحَّةُ الْمُرْسَلِ، وَجَازَ بِهِ الِاحْتِجَاجُ، وَيَصِيرُ فِي الْمَسْأَلَةِ حَدِيثَانِ صَحِيحَانِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. أَقُولُ: هَذَا الْإِشْكَالُ إِنَّمَا هُوَ عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ أَنَّ الْمُرْسَلَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ بِأَنَّهُ حُجَّةٌ وَمَعَهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْهُ فَلَا شُبْهَةَ فِيهِ.
(قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (" يَكُونُ بَعْدِي أَئِمَّةٌ ") بِتَحْقِيقِ الْهَمْزَةِ الثَّانِيَةِ وَتَسْهِيلِهَا وَإِبْدَالِهَا: جَمْعُ إِمَامٍ عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ أَئِمَّةٌ عَلَى وَزْنِ أَفِعْلَةٍ أَيْ: جَمَاعَةٌ يُطْلَقُ عَلَيْهِمُ الْأَئِمَّةُ (" لَا يَهْتَدُونَ بِهُدَايَ ") ، أَيْ: مِنْ حَيْثُ الْعِلْمِ (" وَلَا يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِي ") ، أَيْ: مِنْ حَيْثُ الْعَمَلِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَا يَأْخُذُونَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، (" وَسَيَقُومُ فِيهِمْ رِجَالٌ، قُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الشَّيَاطِينِ ") أَيْ: كَقُلُوبِهِمْ فِي الظُّلْمَةِ، وَالْقَسَاوَةِ، وَالْوَسْوَسَةِ، وَالتَّلْبِيسِ