وَقَالَ الطِّيبِيُّ: يُمْكِنُ أَنْ تُحْمَلَ الْغِبْطَةُ هُنَا عَلَى اسْتِحْسَانِ الْأَمْرِ الْمَرَضِيِّ الْمَحْمُودِ فِعْلُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُغْبَطُ إِلَّا فِي الْأَمْرِ الْمَحْبُوبِ الْمَرَضِيِّ، كَانَ الْأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ يَحْمَدُونَ إِلَيْهِمُ، الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ أَنَّهُ «غَزَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَبُوكَ قَالَ: فَتَبَرَّزَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ لِلْوُضُوءِ، وَحُمِلَتْ مَعَ إِدَاوَةٍ، ثُمَّ أَقْبَلْنَا حَتَّى نَجِدَ النَّاسَ قَدَّمُوا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، فَصَلَّى بِهِمْ، فَأَدْرَكَ رَسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِحْدَى الرَّكْعَتَيْنِ، فَصَلَّى مَعَ النَّاسِ الرَّكْعَةَ الْأَخِيرَةَ، فَلَمَّا سَلَّمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ. قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُتِمُّ صَلَاتَهُ، فَأَفْزَعَ ذَلِكَ الْمُسْلِمِينَ. فَأَكْثَرُوا التَّسْبِيحَ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ ثُمَّ قَالَ: (أَحْسَنْتُمْ) أَوْ قَالَ: (أَصَبْتُمْ) يَغْبِطُهُمْ أَنْ صَلَّوُا الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا» ، فَقَوْلُهُ: يَغْبِطُهُمُ إِلَخْ. كَلَامُ الرَّاوِي تَفْسِيرًا وَبَيَانًا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَحْسَنْتُمْ أَوْ أَصَبْتُمْ» " قَالَ: وَأَيْضًا لَا يَبْعُدُ أَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ فِي الْمَحْشَرِ قَبْلَ دُخُولِ النَّاسِ فِي الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ، لِقَوْلِهِ يَعْنِي فِي الْحَدِيثِ الْآتِي: لَا يَخَافُونَ إِذَا خَافَ النَّاسُ، وَالتَّعْرِيفُ لِلِاسْتِغْرَاقِ، فَيَحْصُلُ لِهَؤُلَاءِ الْأَمْنُ وَالْفَرَاغُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ مَا لَا يَحْصُلُ لِغَيْرِهِمْ لِاشْتِغَالِهِمْ بِحَالِ أَنْفُسِهِمْ، أَوْ حَالِ أُمَّتِهِمْ، فَيَغْبِطُونَهُمْ لِذَلِكَ اهـ.
وَقَوْلُهُ: فَيَحْصُلُ لِهَؤُلَاءِ مِنَ الْأَمْنِ مَا لَا يَحْصُلُ لِغَيْرِهِمْ غَيْرُ صَحِيحٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ} [الأنعام: 82] . وَأَيْضًا تَصَوُّرُ أَمْنِ الْمُتَحَابِّينَ وَخَوْفِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ خَطَأٌ فَاحِشٌ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ تَفْضِيلُ الْأَوْلِيَاءِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، كَمَا يُشْعِرُ بِهِ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ، وَالْعُلَمَاءُ عَامِلُونَ فِي تَأْوِيلِهِ بِوَجْهٍ يُزِيلُ الْإِشْكَالَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالِ، وَكَذَا قَوْلُ بَعْضِ الشُّرَّاحِ: يَغْبِطُهُمْ وَقْتَ الْحِسَابِ قَبْلَ دُخُولِهِمُ الْجَنَّةَ يَعْنِي هُمْ عَلَى الْمَنَابِرِ وَالْخَلْقِ فِي الْحِسَابِ اهـ. وَهُوَ بِظَاهِرِهِ عُدُولٌ عَنْ صَوْبِ الصَّوَابِ.