بَيَانِيَّةٌ حَتَّى يَكُونَ تَشْبِيهًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] ، جَعَلَ فَهِيَ إِمَّا ابْتِدَائِيَّةٌ أَيِ الْحُمَّى نَشَأَتْ وَحَصَلَتْ مِنْ " فَيْحِ جَهَنَّمَ "، أَوْ تَبْعِيضِيَّةٌ أَيْ: بَعْضٌ مِنْهَا، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ مَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ: " «اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ: رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ، نَفَسٌ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٌ فِي الصَّيْفِ» ". الْحَدِيثُ، فَكَمَا أَنَّ حَرَارَةَ الصَّيْفِ أَثَرٌ مِنْ فَيْحِهَا كَذَلِكَ الْحُمَّى، (فَابْرِدُوهَا بِالْمَاءِ) : بِهَمْزِ الْوَصْلِ وَفِي نُسْخَةٍ بِقَطْعِهَا أَيْ بَرِّدُوا شِدَّةَ حَرَارَتِهَا بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الْبَارِدِ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ الشُّرْبَ وَالِاغْتِسَالَ وَالصَّبَّ عَلَى بَعْضِ الْبَدَنِ كَالْجَبِينِ وَكُفُوفِ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ جَاءَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ، قِيلَ: وَهُوَ خَاصٌّ بِبَعْضِ الْحُمِّيَاتِ الْحَادِثَةِ عِنْدَ شِدَّةِ الْحَرَارَةِ، وَبِبَعْضِ الْأَشْخَاصِ كَأَهْلِ الْحِجَازِ، فَإِنَّ أَكْثَرَ الْحُمِّيَاتِ الَّتِي يَعْرِضُ لَهُمْ عَنْ كَثْرَةِ الْحَرَارَةِ وَشِدَّتِهَا فَيَنْفَعُهَا الْمَاءُ الْبَارِدُ شُرْبًا وَغُسْلًا، فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ " إِذَا حُمَّ دَعَا بِقِرْبَةِ مَاءٍ فَأَهْرَقَهَا عَلَى بَدَنِهِ» " ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ، وَفِي رِوَايَةٍ بِمَاءِ زَمْزَمَ، وَهُوَ شِفَاءٌ لِكُلِّ سَقَمٍ عَلَى مَا وَرَدَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: أَيِ اسْقُوا الْمَحْمُومَ الْمَاءَ لِيَقَعَ بِهِ التَّبْرِيدُ، وَقَدْ وُجِدَ فِي كَلَامِ بَعْضِ الْأَطِبَّاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ: إِنَّ ذَلِكَ أَنْفَعُ الْأَدْوِيَةَ وَأَنْجَعُهَا فِي التَّبْرِيدِ عَنِ الْحُمَّيَاتِ الْحَارَّةِ ; لِأَنَّ الْمَاءَ يَنْسَابُ بِسُهُولَةٍ فَيَصِلُ إِلَى أَمَاكِنِ الْعِلَّةِ، وَيَدْفَعُ حَرَارَتَهَا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى مُعَاوَنَةِ الطَّبِيعَةِ، فَلَا يَشْتَغِلُ بِذَلِكَ عَنْ مُقَاوَمَةِ الْعِلَّةِ، قَالَ السُّيُوطِيُّ: أَيِ أَسْكِنُوا حَرَّهَا بِهِ مَعَ هَمْزِ وَصْلٍ وَقَطْعِهَا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْغُسْلَ، بَلِ الرَّشَّ بَيْنَ الْبَدَنِ وَالثَّوْبِ، كَمَا قَالَتْ أَسْمَاءُ، وَهِيَ أَعْلَمُ مِنْ غَيْرِهَا. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: هُوَ بِهَمْزَةِ وَصْلٍ وَبِضَمِّ الرَّاءِ كَمَا جَاءَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، فَاطْفِئُوهَا بِالْمَاءِ وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ فِي الرِّوَايَاتِ، وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ: أَنَّهُ يُقَالُ بِهَمْزَةِ قَطْعٍ وَكَسْرِ الرَّاءِ فِي لُغَةٍ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: هِيَ لُغَةٌ رَدِيئَةٌ اهـ.
وَفِي الْقَامُوسِ: بَرَّدَهُ بَرْدًا جَعْلَهُ بَارِدًا، أَوْ خَلَطَهُ بِالثَّلْجِ، وَأَبْرَدَهُ جَاءَ بِهِ بَارِدًا، وَلَهُ سَقَاهُ بَارِدًا. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ قَدْ غَلَطَ فِيهِ بَعْضُ مَنْ يُنْسَبُ إِلَى الْعِلْمِ، فَانْغَمَسَ فِي الْمَاءِ لَمَّا أَصَابَتْهُ الْحُمَّى، فَاحْتَقَنَتِ الْحَرَارَةُ فِي بَاطِنِ بَدَنِهِ فَأَصَابَتْهُ عِلَّهٌ صَعْبَةٌ كَادَ يَهْلَكُ فِيهَا، فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ عِلَّتِهِ قَالَ قَوْلًا فَاحِشًا لَا يُحْسِنُ ذِكْرُهُ، وَذَلِكَ لِجَهْلِهِ بِمَعْنَى الْحَدِيثِ، وَذَهَابِهِ عَنْهُ، فَتَبْرِيدُ الْحُمَّى الصَّفْرَاوِيَّةِ بِسَقْيِ الْمَاءِ الصَّادِقِ الْبَرْدِ، وَوَضْعُ أَطْرَافِ الْمَحْمُومِ فِيهِ مِنْ أَنْفَعِ الْعِلَاجِ وَأَسْرَعِهِ إِلَى إِطْفَاءِ نَارِهَا وَكَسْرِ لَهِيبِهَا، فَإِنَّمَا أُمِرَ بِإِطْفَاءِ الْحُمَّى وَتَبْرِيدِهَا بِالْمَاءِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ دُونَ الِانْغِمَاسِ فِيهِ، وَغَطِّ الرَّأْسِ فِيهِ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: أَبْرِدُوهَا بِالْمَاءِ لَيْسَ فِيهِ مَا يُبَيِّنُ صِفَتَهُ وَحَالَتَهُ، وَالْأَطِبَّاءُ يُسَلِّمُونَ أَنَّ الْحُمَّى الصَّفْرَاوِيَّةَ يُدَبَّرُ صَاحِبُهَا بِسَقْيِ الْمَاءِ الْبَارِدِ الشَّدِيدِ الْبُرُودَةِ، وَيَسْقُونَهُ الثَّلْجَ، وَيَغْسِلُونَ أَطْرَافَهُ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ، فَلَا يَبْعُدُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرَادَ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْحُمَّى وَالْغُسْلُ نَحْوَ مَا قَالُوهُ، وَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِمٌ هُنَا فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَسْمَاءَ: «أَنَّهُ يُؤْتَى بِالْمَرْأَةِ الْمَوْعُوكَةِ فَتَصُبُّ الْمَاءَ فِي جَيْبِهَا، وَتَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " أَبْرِدُوهَا بِالْمَاءِ» " فَهَذِهِ أَسْمَاءُ رَاوِيَةُ الْحَدِيثِ، وَقُرْبُهَا مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعْلُومٌ، وَتُؤَوِّلُ الْحَدِيثَ عَلَى نَحْوِ مَا قُلْنَاهُ، فَلَمْ يَبْقَ لِلْمُلْحِدِ الْمُعْتَرِضِ إِلَّا اخْتِرَاعُهُ الْكَذِبَ.
قَالَ الطِّيبِيُّ: أَمَّا مَا رَوَيْنَاهُ عَنِ التِّرْمِذِيَّ، عَنْ ثَوْبَانَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِذَا أَصَابَ أَحَدُكُمُ الْحُمَّى، فَإِنَّ الْحُمَّى قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ فَلْيُطْفِئْهَا عَنْهُ بِالْمَاءِ، فَلْيَسْتَنْقِعْ فِي نَهْرٍ جَارٍ، وَلِيَسْتَقْبِلْ جَرْيَتَهُ فَيَقُولُ: بِسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ اشْفِ عَبْدَكَ وَصَدِّقْ رَسُولَكَ» " إِلَى قَوْلِهِ: " فَإِنَّهَا لَا تَكَادُ تُجَاوِزُ تِسْعًا بِإِذْنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ "، وَالْحَدِيثُ بِتَمَامِهِ مَذْكُورٌ فِي بَابِ صَلَاةِ الْجَنَائِزِ فَشَيْءٌ خَارِجٌ عَنْ قَوَاعِدِ الطَّبِيعَةِ دَاخِلٌ فِي قِسْمِ الْمُعْجِزَاتِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَةِ. أَلَا تَرَى كَيْفَ قَالَ فِي صَدْرِ الْحَدِيثِ: صَدِّقْ رَسُولَكَ، وَفِي آخِرِهِ بِإِذْنِ اللَّهِ، وَقَدْ شُوهِدَ وَجُرِّبَ، وَوُجِدَ كَمَا نَطَقَ بِهِ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ وَصَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَعَلَى مَنِ اقْتَفَى أَثَرَهُ قُلْتُ: قَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَدِيثِ فِي مَحَلِّهِ مَبْسُوطًا، لَكِنْ جَعْلُ الطِّيبِيِّ هُنَا قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي آخِرِهِ بِإِذْنِ اللَّهِ دَلِيلًا عَلَى كَوْنِهِ خَارِقًا لِلْعَادَةِ عَجِيبٌ غَرِيبٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ، فَإِنَّ الْأُمُورَ كُلَّهَا سَوَاءٌ الْمُعْجِزَاتُ وَالْكَرَامَاتُ وَمَوَافِقُ الْعَادَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ بِالْإِجْمَاعِ بِلَا نِزَاعٍ، وَأَمَّا قَوْلُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ، فَإِمَّا مَحْمُولٌ عَلَى الْإِذْنِ بِمَعْنَى الْأَمْرِ، وَإِمَّا إِشْعَارٌ بِأَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ بِيَدِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ لَا اسْتِقْلَالَ لِلْعَبْدِ فِي فِعْلِهِ، وَرَدًّا عَلَى مَنْ يَدَّعِي فِيهِ الْأُلُوهِيَّةَ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .