الْمِقْدَارُ الْمَطْلُوبُ الْمُقَاوِمُ لِلْمَرَضِ أَمَرَهُ بِالزِّيَادَةِ إِلَى أَنْ يَحْصُلَ الشِّفَاءُ. (ثُمَّ جَاءَ الرَّابِعَةَ) : أَيْ جَاءَ فِي الْمَرَّةِ الرَّابِعَةِ، وَقَالَ مَا سَبَقَ (فَقَالَ: اسْقِهِ عَسَلًا فَقَالَ: لَقَدْ سَقَيْتُهُ) : أَيْ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ، وَهُوَ الْمِقْدَارُ الْمُتَعَارَفُ فِي تَكْرَارِ الْعِلَاجِ (فَلَمْ يَزِدْهُ إِلَّا اسْتِطْلَاقًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَدَقَ اللَّهُ) : أَيْ فِيمَا قَالَ، كَمَا قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ. وَقَالَ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ ابْنُ الْمَلَكِ أَيْ كَوْنُ شِفَاءِ ذَلِكَ الْبَطْنِ فِي شُرْبِهِ الْعَسَلَ قَدْ أُوحِيَ إِلَيْهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى صَادِقٌ فِيهِ، وَهَذَا التَّوْجِيهُ أَوْلَى مِمَّا قَالَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل: 69] لِأَنَّ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ. قُلْتُ: ظَاهِرَهُ الْإِطْلَاقُ وَإِثْبَاتُ الْوَحْيِ يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ (وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ) : أَيْ أَخْطَأَ تَقُولُ الْعَرَبُ: كَذَبَ سَمْعِي إِذَا أَخْطَأَ، وَأَرَادَ بِخَطَئِهِ عَدَمَ حُصُولِ الشِّفَاءِ لَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ نِيَّتَهُ فِي شُرْبِهِ لَمْ تَكُنْ خَالِصَةً أَوْ لِأَنَّ الدَّوَاءَ لَمْ يَعْمَلْ عَمَلَهُ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: يَعْنِي صَدَقَ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ بِأَنَّ الْعَسَلَ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ، وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ حَيْثُ لَمْ يَحْصُلُ لَهُ الشِّفَاءُ بِالْعَسَلِ اهـ.
وَالْمَعْنَى عَلَى الْمَجَازِ أَيْ: أَنَّهُ لَمْ يَصْلُحْ لِقَبُولِ الشِّفَاءِ فِي أَنَّهُ لَمْ يُصِبْهُ الدَّوَاءُ بَعْدَ خَطَئِهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل: 69] يَعُودُ إِلَى الشَّرَابِ الَّذِي هُوَ الْعَسَلُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَغَيْرِهِمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْقُرْآنِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَلِصَرِيحِ هَذَا الْحَدِيثِ. قُلْتُ: وَأَصْرَحُ مِنْهُ الْحَدِيثُ: " «عَلَيْكُمْ بِالشِّفَاءَيْنِ الْعَسَلِ وَالْقُرْآنِ» "، قَالَ: وَالْآيَةُ عَلَى الْخُصُوصِ أَيْ شِفَاءٌ مِنْ بَعْضِ الدَّاءِ أَوْ لِبَعْضِ النَّاسِ، فِي التَّنْكِيرِ دَلَالَةٌ عَلَيْهِ. قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّ تَنْكِيرَ شِفَاءٍ لِلتَّعْظِيمِ لَا لِلتَّقْلِيلِ، وَالْعُمُومُ يُسْتَفَادُ مِنْ جِنْسِ النَّاسِ.
(فَسَقَاهُ) : أَيْ مَرَّةً أُخْرَى (فَبَرَأَ) : بِفَتْحِ الرَّاءِ وَبِكَسْرٍ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ، فَإِنْ قِيلَ: الْعَسَلُ مُسْهِلٌ مُطْلَقًا، فَكَيْفَ أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهِ فِي دَفْعِ الْإِسْهَالِ؟ قُلْنَا: لَعَلَّهُ عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنِ اجْتِمَاعِ الْفَضَلَاتِ الْبَلْغَمِيَّةَ الَّتِي دَفَعَتْهَا الطَّبِيعَةُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَكَانَ مِنْهَا بَقِيَّةٌ مِنَ الْمَادَّةِ مُحْتَاجَةٌ إِلَى قَلْعِهَا بِمُلَيِّنٍ، فَأَمَرَهُ بِشُرْبِ الْعَسَلِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، فَلَمَّا شَرِبَ انْقَطَعَتْ بِالْكُلِّيَّةِ. قُلْتُ: قَوْلُهُ لَعَلَّهُ. . إِلَخْ. يُنَافِيهِ مَا جَزَمَ بِهِ أَوَّلًا مِنْ أَنَّهُ "، إِنَّمَا وَقَعَ أَمْرُهُ بِالْوَحْيِ، ثُمَّ تَوْضِيحُ هَذَا الْكَلَامِ مَا قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هَذَا مِمَّا يَحْسَبُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَذْهَبِ الطِّبِّ وَالْعِلَاجِ، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ إِنَّمَا جَاءَ يَشْكُو إِلَيْهِ اسْتِطْلَاقَ الْبَطْنِ، فَكَيْفَ يَصِفُ لَهُ الْعَسَلَ وَهُوَ يُطْلِقُ، وَمَنْ عَرَفَ شَيْئًا مِنْ أُصُولِ الطِّبِّ وَمَعَانِيهِ عَلِمَ صَوَابَ هَذَا التَّدْبِيرِ، وَذَلِكَ أَنَّ اسْتِطْلَاقَ بَطْنِ هَذَا الرَّجُلِ إِنَّمَا كَانَ هَيْضَةً حَدَثَتْ مِنَ الِامْتِلَاءِ وَسُوءِ الْهَضْمِ، وَالْأَطِبَّاءُ كُلُّهُمْ يَأْمُرُونَ صَاحِبَ الْهَيْضَةِ بِأَنْ يَتْرُكَ الطَّبِيعَةَ وَسَوْقَهَا لَا يُمْسِكُهَا، وَرُبَّمَا امْتَدَّتْ بِقُوَّةٍ مُسْهِلَةٍ حَتَّى تُسْتَفْرَغَ تِلْكَ الْفُضُولُ، فَإِذَا فَرَغَتْ تِلْكَ الْأَوْعِيَةُ مِنْ تِلْكَ الْفُضُولِ، فَرُبَّمَا أَمْسَكَتْ مِنْ دَائِهَا، وَرُبَّمَا عُولِجَتْ بِالْأَشْيَاءِ الْقَابِضَةِ وَالْمُقَوِّيَةِ إِذَا خَافُوا سُقُوطَ الْقُوَّةِ، فَخَرَجَ الْأَمْرُ فِي هَذَا عَلَى مَذْهَبِ الطِّبِّ مُسْتَقِيمًا حِينَ أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُمِدَّ الطَّبِيعَةَ بِالْعَسَلِ لِيَزْدَادَ الشِّفَاءُ، حَتَّى إِذَا انْتَزَحَتْ تِلْكَ الْفُضُولُ وَتَنَقَّتْ مِنْهَا وَقَفَتْ وَأَمْسَكَتْ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ أَيْضًا مِنْ نَاحِيَةِ التَّبَرُّكِ تَصْدِيقًا لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل: 69] وَمَا يَصِفُهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الدَّوَاءِ لِشَخْصٍ بِعَيْنِهِ، فَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ لِدُعَائِهِ وَبِبَرَكَتِهِ وَحُسْنِ أَمْرِهِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ حُكْمًا فِي الْأَعْيَانِ كُلِّهَا، فَعَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ يَجِبُ حَمْلُ مَا لَا يَخْرُجُ عَلَى مَذْهَبِ الطِّبِّ الْقِيَاسِيِّ، وَإِلَيْهِ يَجِبُ تَوْجِيهُهُ كَذَا فِي أَعْلَامِ السُّنَنِّ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .