كِتَابُ الطِّبِّ وَالرُّقَى
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
4514 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «مَا أَنْزَلَ اللَّهُ دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً» ) . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كِتَابُ الطِّبِّ وَالرُّقَى
الطِّبُّ: بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَقَالَ السُّيُوطِيُّ: هُوَ مُثَلَّثُ الطَّاءِ عِلَاجُ الْأَمْرَاضِ، وَمَدَارُهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءٍ: حِفْظُ الصِّحَّةِ، وَالِاحْتِمَاءُ عَنِ الْمُؤْذِي، وَاسْتِفْرَاغُ الْأَخْلَاطِ وَالْمَوَادِّ الْفَاسِدَةِ اهـ. وَفِي أَسَاسِ الْبَلَاغَةِ: جَاءَ فُلَانٌ يَسْتَطِبُّ لِوَجَعِهِ أَيْ يَسْتَوْصِفُ الطَّبِيبَ قَالَ:
لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ يُسْتَطَبُ بِهِ ... إِلَّا الْحَمَاقَةَ أَعْيَتْ مَنْ يُدَاوِيهَا.
وَالرُّقَى بِضَمِّ الرَّاءِ وَفَتْحِ الْقَافِ جَمْعُ رُقْيَةٍ، وَهِيَ الْعُوذَةُ الَّتِي يُرْقَى بِهَا صَاحِبُ الْآفَةِ كَالْحُمَّى وَالصَّرَعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، هَذَا وَقَدْ رَوَى الْبَزَّارُ عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ: «إِنِّي أَجِدُكِ عَالِمَةً بِالطِّبِّ، فَمِنْ أَيْنَ؟ فَقَالَتْ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَثُرَتْ أَسْقَامُهُ، فَكَانَتْ أَطِبَّاءُ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ يَنْعَتُونَ لَهُ فَتَعَلَّمْتُ ذَلِكَ» . قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَالْأَحَادِيثُ الْمَأْثُورَةُ فِي عِلْمِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالطِّبِّ لَا تُحْصَى، وَقَدْ جُمِعَ مِنْهَا دَوَاوِينُ، وَاخْتُلِفَ فِي مَبْدَأِ هَذَا الْعِلْمِ عَلَى أَقْوَالٍ كَثِيرَةٍ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّ بَعْضَهُ عِلْمٌ بِالْوَحْيِ إِلَى بَعْضِ أَنْبِيَائِهِ، وَسَائِرَهُ بِالتَّجَارُبِ لِمَا رَوَىَ الْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ سُلَيْمَانُ كَانَ إِذَا قَامَ يُصَلِّي رَأَى شَجَرَةً ثَابِتَةً بَيْنَ يَدَيْهِ فَيَقُولُ لَهَا: مَا اسْمُكِ؟ ، فَتَقُولُ: كَذَا، فَيَقُولُ: لِأَيِّ شَيْءٍ أَنْتِ؟ ، فَتَقُولُ: لِكَذَا، فَإِنْ كَانَتْ لِدَوَاءٍ كُتِبَتْ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ غَرْسٍ غُرِسَتْ» . الْحَدِيثُ. وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مُصَحَّحٍ أَوْ مُمَرَّضٍ فَبِقَدَرِ اللَّهِ تَعَالَى يَفْعَلُهُ عِنْدَهُ أَوْ بِهِ، فِيهِ خِلَافٌ بَيْنِ أَهْلِ السُّنَّةِ. وَرَجَّحَ الْغَزَالِيُّ وَالسُّبْكِيُّ الثَّانِيَ، رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ حَدِيثَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرَأَيْتَ أَدْوِيَةً نَتَدَاوَى بِهَا وَرُقًى نَسْتَرْقِيَهَا هَلْ تَرُدُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ شَيْئًا؟ قَالَ: هِيَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ» ؟ ".
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
4514 - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " مَا أَنْزَلَ اللَّهُ) : أَيْ مَا أَحْدَثَ وَأَوْجَدَ (دَاءً) : أَيْ وَجَعًا وَبَلَاءً، (إِلَّا أَنْزَلَ) : أَيْ قَدَّرَ (لَهُ شِفَاءً) : أَيْ عِلَاجًا وَدَوَاءً. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ مَا أَصَابَ اللَّهُ أَحَدًا بِدَاءٍ إِلَّا قُدِّرَ لَهُ دَوَاءٌ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَكَذَا النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ: " إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ الدَّوَاءَ ". وَرَوَى أَحْمَدُ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ وَلَفْظُهُ: " «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلَّا وَضَعَ لَهُ شِفَاءً فَعَلَيْكُمْ بِأَلْبَانِ الْبَقَرِ ; فَإِنَّهَا تَرُمُّ مِنْ كُلِّ الشَّجَرِ» ". وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَلَفْظُهُ: " «إِنَّ اللَّهَ لَمْ يُنْزِلْ دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً إِلَّا الْهَرَمَ فَعَلَيْكُمْ بِأَلْبَانِ الْبَقَرِ ; فَإِنَّهَا تَرُمُّ مِنْ كُلِّ الشَّجَرِ» " اهـ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى تَرْكِيبِ الْمَعَاجِينَ لِمَا فِي الْجَمْعِيَّةِ مِنْ حُصُولِ الِاعْتِدَالِ، وَفِي التَّنْزِيلِ أَيْضًا إِيمَاءٌ إِلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل: 69] ، هَذَا وَرَوَى أَحْمَدُ عَنْ أَنَسٍ بِلَفْظِ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَيْثُ خَلَقَ الدَّاءَ خَلَقَ الدَّوَاءَ فَتَدَاوَوْا» . وَرَوَى الْحَاكِمُ وَالْبَزَّارُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: " «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُنْزِلْ دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ دَوَاءً عَلِمَ ذَلِكَ مَنْ عَلِمَ وَجَهِلَ ذَلِكَ مَنْ جَهِلَ إِلَّا السَّامَ ". قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَمَا السَّامَ؟ قَالَ: " الْمَوْتُ» ". وَاعْلَمْ أَنَّ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثَ تَقْوِيَةٌ لِنَفْسِ الْمَرِيضِ وَالطَّبِيبِ وَحَثًّا عَلَى طَلَبِ الدَّوَاءِ وَتَخْفِيفًا لِلْمَرِيضِ، فَإِنَّ النَّفْسَ إِذَا اسْتَوْشَفَتْ أَنَّ لِدَائِهَا دَوَاءً يَزِيدُ قُوَى رَجَائِهَا، وَانْبَعَثَ حَارُّهَا الْغَرِيزِيُّ، فَتَقْوَى الرُّوحُ النَّفْسَانِيَّةُ وَالطَّبِيعِيَّةُ وَالْحَيَوَانِيَّةُ بِقُوَّةِ هَذِهِ الْأَرْوَاحِ تَقْوَى الْقُوَى الْحَامِلَةُ لَهَا فَتَدْفَعُ الْمَرَضَ وَتَقْهَرُهُ، وَالْمُرَادُ بِالْإِنْزَالِ التَّقْدِيرُ، أَوْ إِنْزَالُ عِلْمِهِ عَلَى لِسَانِ تِلْكَ الْأَنْبِيَاءِ، أَوْ إِلْهَامُ مَنْ يُعْتَدُّ بِإِلْهَامِهِ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ عَلَى أَنَّ الْأَدْوِيَةَ الْمَعْنَوِيَّةَ كَصِدْقِ الِاعْتِمَادِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَالْخُضُوعِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَتَفْوِيضِ الْأَمْرِ إِلَيْهِ مَعَ الصَّدَقَةِ وَالْإِحْسَانِ، وَالتَّفْرِيجُ عَنِ الْكَرْبِ أَصْدَقُ فِعْلًا وَأَسْرَعُ نَفْعًا مِنَ الْأَدْوِيَةِ الْحِسِّيَّةِ، لَكِنْ بِشَرْطِ تَصْحِيحِ النِّيَّةِ، وَمِنْ ثَمَّ رُبَّمَا يَتَخَلَّفُ الشِّفَاءُ عَمَّنِ اسْتَعْمَلَ طِبَّ النُّبُوَّةِ لِمَانِعٍ قَامَ بِهِ مِنْ ضَعْفِ اعْتِقَادِ الشِّفَاءِ بِهِ، وَتَلَقِّيهِ بِالْقَبُولِ، وَهَذَا هُوَ السَّبَبُ أَيْضًا فِي عَدَمِ نَفْعِ الْقُرْآنِ الْكَثِيرِينَ، مَعَ أَنَّهُ شِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ، وَقَدْ طَبَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَثِيرًا مِنَ الْأَمْرَاضِ، وَمَحَلُّ بَسْطِهَا الطِّبُّ النَّبَوِيُّ، وَسَائِرُ السِّيَرِ مِنْ كِتَابِ الْمَوَاهِبِ لِلْقَسْطَلَانِيِّ، وَزَادُ الْمَعَادِ لِابْنِ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ وَغَيْرُهُمَا.