وَرَوَى الدَّيْلَمِيُّ «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ: الْعَمَائِمُ تِيجَانُ الْعَرَبِ، فَإِذَا وَضَعُوا الْعَمَائِمَ وَضَعُوا عِزَّهُمْ» . وَرَوَى الْبَارُودِيُّ عَنْ رُكَانَةَ بِلَفْظِ: " «الْعِمَامَةُ عَلَى الْقَلَنْسُوَةِ فَصْلُ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ، يُعْطَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِكُلِّ كَوْرَةٍ يُدَوِّرُهَا عَلَى رَأْسِهِ نُورًا» ، وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: " «صَلَاةُ تَطَوُّعٍ أَوْ فَرِيضَةٍ بِعِمَامَةٍ تَعْدِلُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ صَلَاةً بِلَا عِمَامَةٍ، وَجُمُعَةٌ بِعِمَامَةٍ تَعْدِلُ سَبْعِينَ جُمُعَةً بِلَا عِمَامَةٍ» ". فَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى فَضِيلَةِ الْعِمَامَةِ مُطْلَقًا، نَعَمِ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ أَنَّهَا مَعَ الْقَلَنْسُوَةِ أَفْضَلُ إِمَّا لِيَحْصُلَ بِهَا الْبَهَاءُ الزَّائِدُ، أَوْ لِأَنَّ الْقَلَنْسُوَةَ تَقِيهَا مِنَ الْعَرَقِ، وَلِهَذَا تُسَمَّى عَرَقِيَّةً، فَلُبْسُهَا وَحْدَهَا مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ، كَيْفَ وَهِيَ زِيُّ الْكَفَرَةِ، وَكَذَا الْمُبْتَدَعِةُ فِي بَعْضِ الْبُلْدَانِ، لَكِنْ صَارَ شِعَارًا لِبَعْضِ مَشَايِخِ الْيَمَنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَقَاصِدِهِمْ وَنِيَّاتِهِمْ، هَذَا وَقَدْ قَالَ الْجَزَرِيُّ فِي تَصْحِيحِ الْمَصَابِيحِ قَدْ تَتَبَّعْتُ الْكُتُبَ وَتَطَلَّبْتُ مِنَ السِّيَرِ وَالتَّوَارِيخِ لِأَقِفَ عَلَى قَدْرِ عِمَامَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ أَقِفْ عَلَى شَيْءٍ، حَتَّى أَخْبَرَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ أَنَّهُ وَقَفَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ كَلَامِ النَّوَوِيِّ، ذَكَرَ فِيهِ أَنَّهُ «كَانَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِمَامَةٌ قَصِيرَةٌ، وَعِمَامَةٌ طَوِيلَةٌ، وَأَنَّ الْقَصِيرَةَ كَانَتْ سَبْعَةَ أَذْرُعٍ، وَالطَّوِيلَةَ اثْنَى عَشَرَ ذِرَاعًا» اهـ.
وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُدْخِلِ أَنَّ عِمَامَتَهُ كَانَتْ سَبْعَةَ أَذْرُعٍ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِالْقَصِيرِ وَالطَّوِيلِ، وَقَدْ كَانَتْ سِيرَتُهُ فِي مَلْبَسِهِ كَسَائِرِ سِيَرِهِ عَلَى وَجْهٍ أَتَمَّ، وَنَفْعُهُ لِلنَّاسِ أَعَمُّ، إِذْ كِبَرُ الْعِمَامَةِ يُعَرِّضُ الرَّأْسَ لِلْآفَاتِ الْحِسِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ، كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ فِي الْفُقَهَاءِ الْمَكِّيَّةِ وَالْقُضَاةِ الرُّومِيَّةِ، وَصِغَرُهَا لَا يَقِي مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، فَكَانَ يَجْعَلُهَا وَسَطًا بَيْنَ ذَلِكَ ; تَنْبِيهًا عَلَى أَنْ تَعْتَدِلَ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِكَ.
قَالَ صَاحِبُ الْمُدْخِلِ: وَعَلَيْكَ أَنْ تَتَسَرْوَلَ قَاعِدًا وَتَتَعَمَّمَ قَائِمًا، وَفِي شَرْحِ الشَّمَائِلِ لِابْنِ حَجَرٍ، قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ، عَنْ شَيْخِهِ ابْنِ تَيْمِيَةَ: أَنَّهُ ذَكَرَ شَيْئًا بَدِيعًا، وَهُوَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا رَأَى رَبَّهُ وَاضِعًا يَدَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ أَكْرَمَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ بِالْعَذَبَةِ، قَالَ الْعِرَاقِيُّ: لَمْ نَجِدْ لِذَلِكَ أَصْلًا يَعْنِي مِنَ السُّنَّةِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ:، بَلْ هَذَا مِنْ قَبِيلِ رَأْيِهِمَا وَضَلَالِهِمَا، إِذْ هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا ذَهَبَا إِلَيْهِ وَأَطَالَا فِي الِاسْتِدْلَالِ لَهُ، وَالْحَطِّ عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ فِي نَفْيِهِمْ لَهُ، وَهُوَ إِثْبَاتُ الْجِهَةِ وَالْجِسْمِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَهُمَا فِي هَذَا الْمَقَامِ مِنَ الْقَبَائِحِ وَسُوءِ الِاعْتِقَادِ مَا تُصَمُّ عَنْهُ الْآذَانُ، وَيُقْضَى عَلَيْهِ بِالزُّورِ وَالْبُهْتَانِ، قَبَّحَهُمَا اللَّهُ وَقَبَّحَ مَنْ قَالَ بِقَوْلِهِمَا، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَجِلَّاءُ مَذْهَبِهِ مُبَرَّءُونَ عَنْ هَذِهِ الْوَصْمَةِ الْقَبِيحَةِ، كَيْفَ وَهِيَ كُفْرٌ عِنْدَ كَثِيرِينَ.
أَقُولُ: صَانَهُمَا اللَّهُ عَنْ هَذِهِ السِّمَةِ الشَّنِيعَةِ وَالنِّسْبَةِ الْفَظِيعَةِ، وَمَنْ طَالَعَ شَرْحَ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ لِنَدِيمٍ الْبَارِيِّ الشَّيْخُ عَبْدُ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ الْحَنْبَلِيُّ - قَدَّسَ اللَّهُ تَعَالَى سِرَّهُ الْجَلِيَّ - وَهُوَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ عِنْدَ الصُّوفِيَّةِ حَالَ الْإِطْلَاقِ بِالِاتِّفَاقِ، تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُمَا كَانَا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، بَلْ وَمِنْ أَوْلِيَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَمِمَّا ذُكِرَ فِي الشَّرْحِ الْمَذْكُورِ مَا نَصُّهُ عَلَى وَفْقِ الْمَسْطُورِ هُوَ قَوْلُهُ عَلَى بَعْضِ صُبَاةِ الْمَنَازِلِ، وَهَذَا الْكَلَامُ مِنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ يُبَيِّنُ مَرْتَبَتَهُ مِنَ السُّنَّةِ، وَمِقْدَارَهُ فِي الْعِلْمِ، وَأَنَّهُ بَرِيءٌ مِمَّا رَمَاهُ أَعْدَاؤُهُ الْجَهْمِيَّةُ مِنَ التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ عَلَى عَادَاتِهِمْ فِي رَمْيِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ بِذَلِكَ، كَرَمْيِ الرَّافِضَةِ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ نَوَاصِبُ، وَالنَّوَاصِبِ بِأَنَّهُمْ رَوَافِضُ، وَالْمُعْتَزِلَةِ بِأَنَّهُمْ نَوَائِبُ حَشْوِيَّةٌ، وَذَلِكَ مِيرَاثٌ مِنْ أَعْدَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي رَمْيِهِ وَرَمْيِ أَصْحَابِهِ، بِأَنَّهُمْ صُرَاةٌ قَدِ ابْتَدَعُوا دِينًا مُحْدَثًا، وَهَذَا مِيرَاثٌ لِأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْمَيْمَنَةِ مِنْ نَبِيِّهِمْ بِتَلْقِيبِ أَهْلِ الْبَاطِلِ لَهُمْ بِالْأَلْقَابِ الْمَذْمُومَةِ، وَقَدَّسَ اللَّهُ رُوحَ الشَّافِعِيِّ حَيْثُ يَقُولُ، وَقَدْ نُسِبَ إِلَيْهِ الرَّفْضُ:
إِنْ كَانَ رَفْضًا حُبُّ آلِ مُحَمَّدٍ ... فَلْيَشْهَدِ الثَّقَلَانِ أَنِّي رَافِضِيٌّ
وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْ شَيْخِنَا أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ تَيْمِيَةَ حَيْثُ يَقُولُ:
إِنْ كَانَ نَصْبًا حُبُّ صَحْبِ مُحَمَّدٍ ... فَلْيَشْهَدِ الثِّقْلَانِ أَنِّي نَاصِبِيُّ
وَعَفَا اللَّهُ عَنِ الثَّالِثِ حَيْثُ يَقُولُ:
فَإِنْ كَانَ تَجْسِيمًا ثُبُوتُ صِفَاتِهِ ... وَتَنْزِيهُهَا عَنْ كُلِّ تَأْوِيلٍ مُفْتَرٍ
فَإِنِّي بِحَمْدِ اللَّهِ رَبِّي مُجَسِّمٌ ... هَلُمُّوا شُهُودًا وَامْلَئُوا كُلَّ مَحْضَرِ