تَضْيِيعٌ اهـ. وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى قَوْلِ الْبَعْضِ مِنْ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِالرَّائِحَةِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْكَرَاهَةَ لِلَّوْنِ وَهُوَ لَا يَذْهَبُ بِالْغَسْلِ وَلَيْسَ فِيهِ تَضْيِيعٌ، هَذَا، وَفِي فَتَاوَىَ قَاضِيخَانَ: يُكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَلْبَسَ الْمَصْبُوغَ بِالْعُصْفُرِ وَالزَّعْفَرَانِ وَالْوَرْسِ. قَالَ الْقَاضِي: قِيلَ أَرَادَ بِالْإِحْرَاقِ إِفْنَاءَ الثَّوْبَيْنِ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ، وَلَعَلَّهُ اسْتَعَارَ بِهِ عَنْهُ لِلْمُبَالَغَةِ وَالتَّشْدِيدِ فِي النَّكِيرِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَأْذَنْ فِي الْغَسْلِ ; لِأَنَّ الْمُعَصْفَرَ وَإِنْ كَانَ مَكْرُوهًا لِلرِّجَالِ فَهُوَ غَيْرُ مَكْرُوهٍ لِلنِّسَاءِ، فَيَكُونُ غَسْلُهُ تَضْيِيعًا وَإِتْلَافًا لِلْمَالِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ مَا رُوِيَ: أَنَّهُ أَتَى أَهْلَهُ وَهُمْ يَسْجُرُونَ التَّنُّورَ فَقَذَفَهَا فِيهِ، ثُمَّ لَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ أَتَاهُ فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ مَا فَعَلْتَ؟ فَأَخْبَرَهُ. فَقَالَ: أَفَلَا كَسَوْتَهُمَا بَعْضَ أَهْلِكَ، فَإِنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِمَا لِلنِّسَاءِ؟ ، قُلْتُ: وَكَوْنُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ دَالَّةً عَلَى التَّأْوِيلِ الْمَذْكُورِ مَحَلُّ بَحْثٍ، ثُمَّ قَالَ: وَإِنَّمَا فَعَلَ عَبْدُ اللَّهِ مَا فَعَلَ لِمَا رَأَى مِنْ شِدَّةِ كَرَاهَةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ لِفَهْمِهِ الظَّاهِرِ، أَوْ لِتَوَهُّمِهِ عُمُومَ الْكَرَاهَةِ اهـ. وَالْحَمْلُ عَلَى الْأَخِيرِ أَوْلَى.
قَالَ النَّوَوِيُّ: اخْتَلَفُوا فِي الثِّيَابِ الَّتِي صُبِغَتْ بِالْعُصْفُرِ، فَأَبَاحَهَا جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ، وَلَكِنَّهُ قَالَ: غَيْرُهَا أَفْضَلُ مِنْهَا. وَقَالَ جَمَاعَةٌ: هُوَ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ، وَحَمَلُوا النَّهْيَ عَلَى هَذَا ; لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَبِسَ حُلَّةً حَمْرَاءَ قُلْتُ: هُوَ مُؤَوَّلٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ بِأَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِخُطُوطٍ حُمْرٍ، كَمَا هُوَ شَأْنُ الْبُرُودِ الْيَمَانِيَّةِ، وَسَيَأْتِي مَا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْأَحْمَرِ، قَالَ: وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصْبُغُ بِالْعُصْفُرِ» "، قُلْتُ: لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى جَوَازِ لُبْسِ الْمُعَصْفَرِ لِلرِّجَالِ. قَالَ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: النَّهْيُ يُصْرَفُ إِلَى مَا صُبِغَ بَعْدَ النَّسْجِ، فَأَمَّا مَا صُبِغَ غَزْلُهُ، ثُمَّ نُسِجَ، فَلَيْسَ بِدَاخِلٍ فِي النَّهْيِ. قُلْتُ: وَهَذَا يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ خَارِجِيٍّ، قَالَ: وَحَمَلَ بَعْضُهُمُ النَّهْيَ هُنَا عَلَى الْمُحْرِمِ بِالْحَجِّ أَوِ الْمُعْتَمِرِ ; لِيَكُونَ مُوَافِقًا لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: " «نُهِيَ الْمُحْرِمُ أَنْ يَلْبَسَ ثَوْبًا مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ أَوْ وَرْسٌ» ". قُلْتُ: وَفِيهِ أَنَّهُ يَرْتَفِعُ حُرْمَتُهُ بِالْغَسْلِ إِلَى أَنْ تَنْفَضَّ رَائِحَتُهُ، وَمَعَ إِبْقَائِهَا يَشْتَرِكُ فِيهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءِ. قَالَ: وَأَمَّا الْبَيْهَقِيُّ فَأَتْقَنَ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِهِ مَعْرِفَةِ السُّنَنِ: نَهْىَ الشَّافِعِيُّ الرَّجُلَ عَنِ الْمُزَعْفَرِ وَأَبَاحَ لَهُ الْمُعَصْفَرَ، فَقَالَ: أَيِ الشَّافِعِيُّ: وَإِنَّمَا رُخِّصَتْ فِي الْمُعَصْفَرِ ; لِأَنِّي لَمْ أَجِدْ أَحَدًا يَحْكِي عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَّا مَا قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: نَهَانِي، وَلَا أَقُولُ: نَهَاكُمْ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَقَدْ جَاءَتْ أَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى النَّهْيِ عَلَى الْعُمُومِ، ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو هَذَا، ثُمَّ ذَكَرَ أَحَادِيثَ أُخَرَ، ثُمَّ قَالَ: لَوْ بَلَغَتْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ الشَّافِعِيَّ لَنَهَاهُ، ثُمَّ ذَكَرَ بِإِسْنَادٍ مَا صَحَّ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا صَحَّ حَدِيثُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خِلَافَ قَوْلِي فَاعْمَلُوا بِالْحَدِيثِ وَدَعُوا قَوْلِي فَهُوَ مَذْهَبِي. قُلْتُ: وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا مَذْهَبَ كُلِّ مُسْلِمٍ. قَالَ: وَأَمَّا الْأَمْرُ بِإِحْرَاقِهِمَا فَقِيلَ: هُوَ عُقُوبَةٌ وَتَغْلِيظٌ لِزَجْرِهِ وَزَجْرِ غَيْرِهِ عَنْ مِثْلِ هَذَا الْفِعْلِ، وَنَظِيرُهُ أَمْرُهُ لِلْمَرْأَةِ الَّتِي لَعَنَتِ النَّاقَةَ فَأَرْسَلَهَا أَيْ وَأَخْرَجَهَا مِنَ الْقَافِلَةِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَأَمَّا مَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِرِوَايَةِ الْخَطِيبِ، عَنْ أَنَسٍ: كَانَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِلْحَفَةٌ مَصُوغَةٌ بِالْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَانِ يَدُورُ بِهَا عَلَى نِسَائِهِ، فَإِذَا كَانَتْ لَيْلَةُ هَذِهِ رَشَّتْهَا بِالْمَاءِ، وَإِذَا كَانَتْ لَيْلَةُ هَذِهِ رَشَّتْهَا، فَقَدْ صَحَّ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ تَلْتَحِفُ بِهَا، أَوْ كَانَتْ تَفْتَرِشُ لَهُ أَوْ لَهُمَا، أَوْ تُسْتَثْنَى تِلْكَ الْهَيْئَةُ وَالْحَالَةُ، أَوْ تُعَدُّ مِنَ الْخُصُوصِيَّاتِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(وَسَنَذْكُرُ حَدِيثَ عَائِشَةَ: خَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ غَدَاةٍ) : أَيْ وَعَلَيْهِ مِرْطٌ مُرَجَّلٌ. . إِلَخْ، وَسَيَأْتِي ضَبْطُهُمَا وَمَعْنَاهُمَا أَيْضًا. (فِي بَابِ مَنَاقِبِ أَهْلِ بَبْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) .