وَازْدَادَ نُورِيَّتُهَا، وَإِشْرَاقُهَا بِالْإِعْرَاضِ عَنْ ظُلْمَةِ عَالَمِ الْحِسِّ، وَتَحْلِيَةُ مِرْآةِ الْقَلْبِ عَنْ صَدَأِ الطَّبِيعَةِ، وَالْمُوَاظَبَةُ عَلَى الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَفَيَضَانُ الْأَنْوَارِ الْإِلَهِيَّةِ حَتَّى يَقْوَى النُّورُ، وَيَنْبَسِطَ فِي فَضَاءِ قَلْبِهِ فَتَنْعَكِسُ فِيهِ النُّقُوشُ الْمُرْتَسِمَةُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَيَطَّلِعُ عَلَى الْمُغَيَّبَاتِ، وَيَتَصَرَّفُ فِي أَجْسَامِ الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ، بَلْ يَتَجَلَّى حِينَئِذٍ الْفَيَّاضُ الْأَقْدَسُ بِمَعْرِفَتِهِ الَّتِي هِيَ أَشْرَفُ الْعَطَايَا فَكَيْفَ بِغَيْرِهَا؟ (قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَاتِهَا) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ جَمْعُ أَمَارَةٍ أَيْ: عَلَامَةٍ، وَفِي رِوَايَةٍ: عَنْ أَشْرَاطِهَا، وَهُوَ جَمْعُ شَرْطٍ بِالْفَتْحِ بِمَعْنَى الْعَلَامَةِ، وَالْمُرَادُ شَيْءٌ مِنْ عَلَامَاتِهَا الدَّالَّةِ عَلَى قُرْبِهَا، وَلِذَا قِيلَ أَيْ: مُقَدِّمَاتُهَا، وَقِيلَ صِغَارُ أُمُورِهَا. وَفِي رِوَايَةٍ سَأُخْبِرُكَ، وَفِي أُخْرَى، وَسَأُحَدِّثُكَ عَنْ أَشْرَاطِهَا، وَجُمِعَ بِأَنَّهُ ابْتَدَأَهُ بِقَوْلِهِ، وَسَأُخْبِرُكَ، فَقَالَ السَّائِلُ: فَأَخْبِرْنِي، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا فِي رِوَايَةٍ: وَلَكِنْ إِنْ شِئْتَ نَبَّأَتُكَ عَنْ أَشْرَاطِهَا. قَالَ: أَجَلْ. وَفِي رِوَايَةٍ: فَحَدِّثْنِي [ (قَالَ: (أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا) ] أَيْ: مِنْ جُمْلَةِ عَلَامَاتِهَا أَوْ إِحْدَى أَمَارَاتِهَا وِلَادَةُ الْأَمَةِ مَالِكَهَا وَمَوْلَاهَا، وَقِيلَ التَّقْدِيرُ عَلَامَاتُهَا وِلَادَةُ الْأَمَةِ، وَرُؤْيَةُ الْحُفَاةِ فَاحْتَاجَ إِلَى أَنْ يَقُولَ أَخْبَرَ عَنِ الْجَمْعِ بِاثْنَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا أَقَلُّهُ كَمَا عَلَيْهِ جُمِعَ، وَتَأْنِيثُهَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَإِنْ ذُكِّرَ فِي رِوَايَاتٍ أُخَرَ بِاعْتِبَارِ التَّسْمِيَةِ، لِيَشْمَلَ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ، أَوْ فِرَارًا مِنْ شَرِكَةِ لَفْظِ رَبِّ الْعِبَادِ، وَإِنْ جَوَّزَ إِطْلَاقَهُ عَلَى غَيْرِهِ تَعَالَى بِالْإِضَافَةِ دُونَ التَّعْرِيفِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَلْفَاظِ الْجَاهِلِيَّةِ، أَوْ أَرَادَ الْبِنْتَ فَيُعْرَفُ الِابْنُ بِالْأَوْلَى، وَالْإِضَافَةُ إِمَّا لِأَجْلِ أَنَّهُ سَبَبُ عِتْقِهَا، أَوْ لِأَنَّهُ وَلَدُ رَبِّهَا، أَوْ مَوْلَاهَا بَعْدَ الْأَبِ، وَفَسَّرَ هَذَا الْقَوْلَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ بِأَنَّ السَّبْيَ يَكْثُرُ بَعْدَ اتِّسَاعِ رُقْعَةِ الْإِسْلَامِ فَيَسْتَرِدُّ النَّاسُ إِمَاءَهُمْ، فَيَكُونُ الْوَلَدُ كَالسَّيِّدِ لِأُمِّهِ لِأَنَّ مِلْكَهَا رَاجِعٌ إِلَيْهِ فِي التَّقْدِيرِ، وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى قُوَّةِ الدِّينِ، وَاسْتِيلَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَهِيَ مِنَ الْأَمَارَاتِ؛ لِأَنَّ بُلُوغَ الْغَايَةِ مُنْذِرٌ بِالتَّرَاجُعِ وَالِانْحِطَاطِ الْمُؤْذِنِ بِقِيَامِ السَّاعَةِ، أَوْ إِلَى أَنَّ الْأَعِزَّةَ تَصِيرُ أَذِلَّةً لِأَنَّ الْأُمَّ مُرَبِّيَةٌ لِلْوَلَدِ مُدَبِّرَةٌ أَمْرَهُ فَإِذَا صَارَ الْوَلَدُ رَبَّهَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ بِنْتًا يَنْقَلِبُ الْأَمْرُ كَمَا أَنَّ الْقَرِينَةَ الثَّانِيَةَ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ، وَهِيَ أَنَّ الْأَذِلَّةَ يَنْقَلِبُونَ أَعِزَّةً مُلُوكَ الْأَرْضِ فَيَتَلَاءَمُ الْمَعْطُوفَانِ، وَهَذَا إِخْبَارٌ بِتَغَيُّرِ الزَّمَانِ، وَانْقِلَابِ أَحْوَالِ النَّاسِ بِحَيْثُ لَا يُشَاهَدُ قَبْلَهُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَرَدَ مِنْ حَدِيثٍ أَنَّهُ ( «إِذَا ضُيِّعَتِ الْأَمَانَةُ، وَوُسِّدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ» ) . وَقِيلَ: سُمِّيَ وَلَدُهَا سَيِّدَهَا؛ لِأَنَّ لَهُ وَلَاءَهَا بِإِرْثِهِ لَهُ عَنْ أَبِيهِ إِذَا مَاتَ، أَوْ أَنَّهُ كَسَيِّدِهَا لِصَيْرُورَةِ مَالِ أَبِيهِ إِلَيْهِ غَالِبًا فَتَصِيرُ أُمُّهُ كَأَنَّهَا أَمَتَهُ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّ الْإِمَاءَ تَلِدْنَ الْمُلُوكَ فَتَكُونُ أُمُّهُ مِنْ جُمْلَةِ رَعِيَّتِهِ، وَأُيِّدَ بِأَنَّ الرُّؤَسَاءَ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ كَانُوا يَسْتَنْكِفُونَ غَالِبًا مِنْ وَطْءِ الْإِمَاءِ، وَيَتَنَافَسُونَ فِي الْحَرَائِرِ، ثُمَّ انْعَكَسَ الْأَمْرُ سِيَّمَا مِنْ أَثْنَاءِ دَوْلَةِ بَنِي الْعَبَّاسِ، وَيَقْرُبُ مِنْهُ الْقَوْلُ بِأَنَّ السَّبْيَ إِذَا كَثُرَ قَدْ يُسْبَى الْوَلَدُ صَغِيرًا، ثُمَّ يُعْتَقُ، وَيَصِيرُ رَئِيسًا بَلْ مَلِكًا، ثُمَّ يَسْبِي أُمَّهُ فَيَشْتَرِيهَا عَالِمًا أَوْ جَاهِلًا بِهَا ثُمَّ يَسْتَخْدِمُهَا، وَقَدْ يَطَؤُهَا أَوْ يُعْتِقُهَا وَيَتَزَوَّجُهَا، وَقِيلَ مَعْنَاهُ فَسَادُ الْأَحْوَالِ بِكَثْرَةِ بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ فَتُرَدَّدُ فِي أَيْدِي الْمُشْتَرِينَ حَتَّى يَشْتَرِيَهَا ابْنُهَا أَوْ يَطَأَهَا، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ بَعْلِهَا، وَإِنْ فُسِّرَ بِسَيِّدِهَا، وَقِيلَ مَعْنَاهُ الْإِشَارَةُ إِلَى كَثْرَةِ عُقُوقِ الْأَوْلَادِ فَيُعَامِلُ الْوَلَدُ أُمَّهُ مُعَامَلَةَ السَّيِّدِ أَمَتَهُ مِنَ الْخِدْمَةِ وَغَيْرِهَا، وَخُصَّ بِوَلَدِ الْأَمَةِ لِأَنَّ الْعُقُوقَ فِيهِ أَغْلَبُ، وَعَبَّرَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ بِإِذَا بَدَلَ أَنِ الْمَفْتُوحَةِ إِشَارَةً إِلَى تَحَقُّقِ الْوُقُوعِ، وَلِذَلِكَ قَالُوا يُقَالُ: إِذَا قَامَتِ الْقِيَامَةُ، وَلَا يُقَالُ: إِنْ بِالْكَسْرِ لِأَنَّهُ كُفْرٌ لِإِشْعَارِهِ بِالشَّكِّ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي جَزْمِهِمْ بِأَنَّ ذَلِكَ كُفْرٌ نَظَرٌ، وَيَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى مَنْ عَرَفَ هَذَا الْمَعْنَى وَاعْتَقَدَهُ، وَإِلَّا فَكَثِيرًا مَا يُسْتَعْمَلُ إِنْ مَوْضِعَ إِذْ، أَوْ بِالْعَكْسِ لِأَغْرَاضٍ بُيِّنَتْ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي [ (وَأَنْ تَرَى) ] : خِطَابٌ عَامٌّ لِيَدُلَّ عَلَى بُلُوغِ الْخَطْبِ فِي الْعِلْمِ مَبْلَغًا لَا يَخْتَصُّ بِهِ رُؤْيَةُ رَاءٍ [ (الْحُفَاةَ) ] : بِضَمِّ الْحَاءِ جَمْعُ الْحَافِي، وَهُوَ مَنْ لَا نَعْلَ لَهُ، [ (الْعُرَاةَ) ] : جَمْعُ الْعَارِي، وَهُوَ صَادِقٌ عَلَى مَنْ يَكُونُ بَعْضُ بَدَنِهِ مَكْشُوفًا مِمَّا يَحْسُنُ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَلْبُوسًا [ (الْعَالَةَ) ] : جَمْعُ عَائِلٍ، وَهُوَ الْفَقِيرُ مِنْ عَالَ يَعِيلُ إِذَا افْتَقَرَ، أَوْ مِنْ عَالَ يَعُولُ إِذَا افْتَقَرَ وَكَثُرَ عِيَالُهُ، [ (رِعَاءَ الشَّاءِ) ] : بِكَسْرِ الرَّاءِ، وَالْمَدِّ جَمْعُ رَاعٍ كَتَاجِرٍ وَتِجَارٍ، وَالشَّاءُ جَمْعُ شَاةٍ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ، وَفِي رِوَايَةٍ: الْإِبِلِ الْبُهْمِ بِضَمِّ الْبَاءِ أَيْ: السُّودِ، وَهُوَ بِجَرِّ الْمِيمِ وَرَفْعِهَا، وَصَفًا لِلرُّعَاةِ، جَمْعُ بَهِيمٍ، فَيَكُونُ كِنَايَةً عَنْ حَالِهِمْ، وَأَنَّهُ لَا يَعُودُ لَهُمْ أَصْلٌ مِنْ أُبْهِمَ الْأَمْرُ، إِذَا لَمْ يُعْرَفْ حَقِيقَتُهُ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْأَوْلَى حَمْلُهُ عَلَى سَوَادِ اللَّوْنِ لِأَنَّ الْأُدْمَةَ غَالِبُ أَلْوَانِ الْعَرَبِ، أَوْ لِلْإِبِلِ جَمْعُ بَهْمَاءَ إِذِ السُّودُ شَرُّهَا عِنْدَهُمْ، وَخَيْرُهَا عِنْدَهُمُ الْحُمْرُ، وَمِنْ ثَمَّ وَرَدَ: خَيْرٌ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ، وَفِي رِوَايَةٍ الْبَهْمِ بِفَتْحِ الْبَاءِ، وَلَا وَجْهَ لَهُ مَعَ ذِكْرِ الْإِبِلِ بَلْ مَعَ حَذْفِهِ الَّذِي هُوَ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ إِذْ هُوَ جَمْعُ بَهْمَةٍ