وَسَلَامُهُ مِنْ قَوْلِهِ: (إِنَّ شُهَدَاءَ أُمَّتِي إِذًا لَقَلِيلٌ) : وَكَانَ يَكْفِي عَلَى ظَنِّهِمْ أَنْ يَقُولُوا مَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَطْنَبُوا وَأَتَوْا فِي الْخَبَرِ بِالْفَاءِ دَلَالَةً عَلَى أَنِ أَصْلَهُ الْمَوْصُولَ عِلَّةٌ لِلْخَبَرِ، فَخَصُّوا مَا أُرِيدُ الْعُمُومُ فِيهِ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ كَانَ السُّؤَالَ عَنْ أَصْنَافِ الشَّهِيدِ الشَّامِلِ لِلْحَقِيقِيِّ وَالْحِكْمَةِ، كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ لَفْظَةُ تَعُدُّونَ، فَلَمَّا حَصَرُوهُ فِي الْحَقِيقِيِّ قَالَ: (إِنَّ شُهَدَاءَ أُمَّتِي إِذًا لِقَلِيلٌ) . (مَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ شَهِيدٌ) : أَيْ حَقِيقَةً لَا شُبْهَةَ فِيهِ (وَمَنْ مَاتَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ شَهِيدٌ) : أَيْ ; أَيْضًا لَكِنْ حُكْمًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء: 100] وَأَيْضًا «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» ، «وَنِيَّةُ الْمُؤْمِنِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ» . وَقَدْ سَبَقَ حَدِيثُ: " «مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ بَلَّغَهُ اللَّهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ» ". ( «وَمَنْ مَاتَ فِي الطَّاعُونِ فَهُوَ شَهِيدٌ» ) : لِأَنَّهُ مَقْتُولُ الْجِنِّ عَلَى مَا وَرَدَ بِهِ الْخَبَرُ ( «وَمَنْ مَاتَ فِي الْبَطْنِ فَهُوَ شَهِيدٌ» ) : فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: الْمَبْطُونُ صَاحِبُ دَاءِ الْبَطْنِ وَهُوَ الْإِسْهَالُ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقِيلَ هُوَ الَّذِي بِهِ الِاسْتِسْقَاءُ وَانْتِفَاخُ الْبَطْنِ، وَقِيلَ: الَّذِي يَمُوتُ بِدَاءِ بَطْنِهِ مُطْلَقًا اه. وَلَعَلَّ كَوْنَهُ شَهِيدًا ; لِأَنَّ الْغَالِبَ فِيهِ أَنْ يَمُوتَ حَاضِرَ الْقَلْبِ مُنْكَشِفًا عِنْدَ الْمَوْتِ. قَالَ الْقَاضِي الْبَيْضَاوِيُّ: الشَّهِيدُ فَعِيلٌ مِنَ الشُّهُودِ. بِمَعْنَى مَفْعُولٍ ; لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَحْضُرُهُ وَتُبَشِّرُهُ بِالْفَوْزِ وَالْكَرَامَةِ، أَوْ بِمَعْنَى فَاعِلٍ ; لِأَنَّهُ يَلْقَى رَبَّهُ وَيَحْضُرُ عِنْدَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الحديد: 19] ، أَوْ مِنَ الشَّهَادَةِ فَإِنَّهُ بَيَّنَ صِدْقَهُ فِي الْإِيمَانِ وَالْإِخْلَاصَ فِي الطَّاعَةِ بِبَذْلِ النَّفْسِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ يَكُونُ تِلْوَ الرُّسُلِ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْأُمَمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ مَاتَ فِي الطَّاعُونِ، أَوْ بِوَجَعٍ فِي الْبَطْنِ مُلْحَقٌ بِمَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِمُشَارَكَتِهِ إِيَّاهُ فِي بَعْضِ مَا يَنَالُ مِنَ الْكَرَامَةِ بِسَبَبِ مَا كَابَدَهُ مِنَ الشِّدَّةِ لَا فِي جُمْلَةِ الْأَحْكَامِ وَالْفَضَائِلِ اه.
وَقَدْ جَمَعَ شَيْخُ مَشَايِخِنَا الْحَافِظُ جَلَالُ الدِّينِ السُّيُوطِيُّ مَا وَرَدَ مِنْ أَنْوَاعِ الشَّهَادَةِ الْحُكْمِيَّةِ فِي كُرَّاسَةٍ مِنْهُمُ: الْغَرِيقُ وَالْحَرِيقُ وَالْمَهْدُومُ وَالْغَرِيبُ وَالْمُرَابِطُ، وَمَنْ مَاتَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، أَوْ لَيْلَتَهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يُشَارِكُونَ الشُّهَدَاءَ فِي نَوْعٍ مِنَ الْمِئَوِيَّاتِ الَّتِي يَسْتَحِقُّهَا الشُّهَدَاءُ لَا الْمُسَاوَاةُ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِهَا (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، عَنْ سَلْمَانَ أَنَّ: النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَا تَعُدُّونَ الشَّهِيدَ فِيكُمْ؟ " قَالُوا: الَّذِي يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. قَالَ: " إِنَّ شُهَدَاءَ أُمَّتِي إِذًا لَقَلِيلٌ. الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ شَهَادَةٌ وَالطَّاعُونُ شَهَادَةٌ، وَالنُّفَسَاءُ شَهَادَةٌ، وَالْحَرْقُ شَهَادَةٌ، وَالْغَرَقُ شَهَادَةٌ، وَالسَّلُّ شَهَادَةٌ، وَالْبَطْنُ شَهَادَةٌ» .