{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34] قُلْتُ: وَفِي كَثِيرٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ بَأَوْ فَإِفْرَادُهُ عَلَى الْقِيَاسِ، وَيُمْكِنُ جَعْلُ الْوَاوِ بِمَعْنَى أَوْ لِتَجْتَمِعَ الرِّوَايَاتُ. (أَوْ رَجُلٌ فِي غُنَيْمَةٍ) : أَيْ فِي مَعَاشِهِ، وَالظَّرْفُ مُتَعَلِّقٌ بِهِ إِنْ جُعِلَ مَصْدَرًا، أَوْ بِمَحْذُوفٍ هُوَ صِفَةٌ لِرَجُلٍ، وَغُنَيْمَةٌ تَصْغِيرُ غُنْمٍ، وَهُوَ مُؤَنَّثٌ سَمَاعِيُّ، وَلِذَلِكَ صُغِّرَتْ بِالتَّاءِ، وَالْمُرَادُ قِطْعَةُ غُنْمٍ (فِي رَأْسِ شَعَفَةٍ) . بِفَتْحَتَيْنِ ; أَيْ رَأْسِ جَبَلٍ (مِنْ هَذِهِ الشَّعَفِ) ، يُرِيدُ بِهِ الْجَنْيَ لَا الْعَهْدَ (أَوْ بَطْنِ وَادٍ) : أَيْ فِي بَطْنِ وَادٍ (مِنْ هَذِهِ الْأَوْدِيَةِ، يُقِيمُ الصَّلَاةَ وَيُؤْتِي الزَّكَاةَ) : أَيْ إِنْ كَانَتْ عَلَيْهِ (وَيَعْبُدُ رَبَّهُ) : تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ (حَتَّى يَأْتِيَهُ الْيَقِينُ) ; أَيِ الْمَوْتُ سُمِّيَ بِهِ ; لِأَنَّهُ لَا شَكَّ فِي تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: الْمَوْتُ يَقِينٌ يُشْبِهُ الشَّكَّ (لَيْسَ) : أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الرَّجُلَيْنِ، أَوِ الثَّانِي، وَهُوَ أَقْرَبُ (مِنَ النَّاسِ) : أَيْ مِنْ أُمُورِهِمْ (إِلَّا فِي خَيْرٍ) ; أَيْ فِي أَمْرِ خَيْرٍ.
قَالَ الطِّيبِيُّ، قَوْلُهُ: هَذِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِلتَّحْقِيرِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [العنكبوت: 64] وَمِنْ ثَمَّ صَغَّرَ غُنَيْمَةً وَصْفًا لِقَنَاعَةِ هَذَا الرَّجُلِ بِأَنَّهُ يَسْكُنُ فِي أَحْقَرِ مَكَانٍ، وَيَجْتَزِئُ بِأَدْنَى قُوتٍ وَيَعْتَزِلُ النَّاسُ شَرَّهُ، وَيَسْتَكْفِي شَرَّهُمْ عَنْ نَفْسِهِ، وَيَشْتَغِلُ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ حَتَّى يَجِيئَهُ الْمَوْتُ، وَعَبَّرَ عَنِ الْمَوْتِ بِالْيَقِينِ لِيَكُونَ نَصْبَ عَيْنِهِ مَزِيدًا لِلتَّسَلِّي، فَإِنَّ فِي ذِكْرِهَا ذَمَّ اللَّذَّاتِ مَا يُعْرِضُهُ عَنْ أَغْرَاضِ الدُّنْيَا وَيَشْغَلُهُ مِنْ مَلَاذِّهَا بِعِبَادَةِ رَبِّهِ، أَلَا تَرَى كَيْفَ سَلَّى حَبِيبَهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ حِينَ لَقِيَ مَا لَقِيَ عَنْ أَذَى الْكُفَّارِ بِقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} [الحجر: 97] إِلَى قَوْلِهِ: {حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99] قَالَ النَّوَوِيُّ: فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ لِمَنْ قَالَ بِتَفْضِيلِ الْعُزْلَةِ عَلَى الْخُلْطَةِ، وَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ مَشْهُورٌ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الِاخْتِلَاطَ أَفْضَلُ بِشَرْطِ رَجَاءِ السَّلَامَةِ مِنِ الْفِتَنِ، وَمَذْهَبُ طَوَائِفَ مِنَ الزُّهَّادِ أَنَّ الِاعْتِزَالَ أَفْضَلُ، وَاسْتَدَلُّوا بِالْحَدِيثِ، وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى زَمَانِ الْفِتَنِ وَالْحُرُوبِ، أَوْ فِيمَنْ لَا يَسْلَمُ النَّاسُ مِنْهُ، وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ، وَقَدْ كَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَجَمَاهِيرُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْعُلَمَاءِ وَالزُّهَّادِ مُخْتَلِطِينَ، وَيُحَصِّلُونَ مَنَافِعَ الِاخْتِلَاطِ بِشُهُودِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ وَالْجَنَائِزِ وَعِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَحِلَقِ الذَّكَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِي تَخْصِيصِ ذِكْرِ الْمَعَاشِ تَلْمِيحٌ، فَإِنَّ الْعَيْشَ الْمُتَعَارَفَ مِنْ أَنْبَاءِ الدَّهْرِ هُوَ اسْتِيفَاءُ اللَّذَّاتِ وَالِانْهِمَاكُ فِي الشَّهَوَاتِ، كَمَا سُمِّيَتِ الْبَيْدَاءُ الْمُهْلِكَةَ بِالْمَفَازَةِ وَالْمَنْجَاةِ وَاللَّدِيغُ بِالسَّلِيمِ، وَتَلْمِيحٌ إِلَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «اللَّهُمَّ لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الْآخِرَةِ» " وَفِيهِ أَنْ لَا عَيْشَ أَلَذُّ وَأَمَرُّ، أَوْ أَشْهَى وَأَهْنَأُ مِمَّا يَجِدُ مِنْ طَاعَةِ رَبِّهِ، وَيَسْتَرْوِحُ إِلَيْهَا حَتَّى يَرْفَعَ تَكَالِيفَهَا وَمَشَاقَّهَا عَنْهُ، بَلْ إِذَا فَقَدَ مَا كَانَ أَصْعَبَ عَلَيْهِ مِمَّا إِذَا وَتَرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ، وَإِلَيْهِ يُنْظَرُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَرِحْنَا يَا بِلَالُ " وَقَوْلُهُ: " «وَجَعَلَ قُرَّةَ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ» " وَتَعْرِيضٌ بِذَمِّ عَيْشِ الدُّنْيَا، وَجِمَاعُ مَعْنَى الْحَدِيثِ الْحَثُّ عَلَى مُجَاهَدَةِ أَعْدَاءِ الدِّينِ، وَعَلَى مُخَالَفَةِ النَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ اسْتِيفَاءِ اللَّذَّاتِ الْعَاجِلَةِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .