أَدَائِهِ، وَقَدَّمَ الْبَيَاضَ عَلَى السَّوَادِ لِأَنَّهُ خَيْرُ الْأَلْوَانِ، وَمُحِيطٌ بِالْأَبْدَانِ، وَلِئَلَّا يَفْتَتِحُ بَغْتَةً بِلَوْنٍ مُتَوَحِّشٍ، وَجَمَعَ الثِّيَابَ دُونَ الشَّعْرِ إِشْعَارًا بِأَنَّ جَمِيعَهَا كَذَلِكَ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ شَدِيدُ سَوَادِ اللِّحْيَةِ، وَبِهَا يَتَبَيَّنُ مَحْمِلُ الشَّعْرِ الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ، وَالشَّعَرُ بِفَتْحَتَيْنِ أَفْصَحُ مِنْ سُكُونِ الثَّانِي، وَيُضَمُّ مَعَهُ مُرَاعَاةً لِلسَّجْعِ فِي قَوْلِهِ: (لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ) : رُوِيَ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ الْغَائِبِ، وَرَفْعِ الْأَثَرِ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْأَكْثَرِ وَالْأَشْهَرِ، وَرُوِيَ بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ الْمَعْلُومِ، وَنَصْبِ الْأَثَرِ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِنْ رَجُلٍ، أَوْ صِفَةٌ لَهُ، وَالْمُرَادُ بِالْآثَارِ ظُهُورُ التَّعَبِ، وَالتَّغَيُّرِ، وَالْغُبَارِ، وَالسَّفَرُ مَأْخُوذٌ مِنَ السَّفْرِ، وَهُوَ الْكَشْفُ؛ لِأَنَّهُ يَكْشِفُ أَحْوَالَ الرِّجَالِ، وَأَخْلَاقَهُمْ عِنْدَ مُبَاشَرَةِ الْأَعْمَالِ.

(وَلَا يَعْرِفُهُ) : عَطْفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ (مِنَّا) أَيْ: مِنَ الْحَاضِرِينَ فِي الْمَجْلِسِ قُدِّمَ لِلِاهْتِمَامِ عَلَى قَوْلِهِ: (أَحَدٌ) : وَقَالَ أَبُو الْفَضَائِلِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ الْمِصْرِيُّ الْمُشْتَهِرُ بِزَيْنِ الْعَرَبِ فِي شَرْحِهِ لِلْمَصَابِيحِ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَإِلَّا فَالرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ عَرَفَهُ، وَقَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: قَدْ جَاءَ صَرِيحًا فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَعْرِفْهُ حَتَّى غَابَ جِبْرِيلُ كَمَا أَفَادَهُ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ فِي شَرْحِهِ لِلْبُخَارِيِّ، وَالْمَعْنَى تَعَجَّبْنَا مِنْ كَيْفِيَّةِ إِتْيَانِهِ، وَتَرَدَّدْنَا فِي أَنَّهُ مِنَ الْمَلَكِ، أَوِ الْجِنِّ إِذْ لَوْ كَانَ بَشَرًا مِنَ الْمَدِينَةِ لَعَرَفْنَاهُ، أَوْ كَانَ غَرِيبًا لَكَانَ عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ عَلِمَ عُمَرُ أَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ؟ أُجِيبَ: بِأَنَّهُ يَحْتَمِلُهَا، ثُمَّ اسْتَنَدَ فِي ذَلِكَ إِلَى ظَنِّهِ، أَوْ إِلَى صَرِيحِ قَوْلِ الْحَاضِرِينَ، وَالثَّانِي أَوْلَى فَقَدْ جَاءَ كَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ عُثْمَانَ بْنِ غِيَاثٍ فَنَظَرَ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ فَقَالُوا: مَا نَعْرِفُ هَذَا كَذَا قَالَهُ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ. (حَتَّى جَلَسَ) : غَايَةٌ لِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ طَلَعَ أَوَّلَهُ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى أَتَى أَيْ: أَقْبَلَ، وَاسْتَأْذَنَ. وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صُورَةِ شَابٍّ عَلَيْهِ ثِيَابٌ بَيَاضٌ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (وَعَلَيْكَ السَّلَامُ) فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَدْنُو» فَقَالَ: (ادْنُ) فَالتَّقْدِيرُ دَنَا حَتَّى جَلَسَ مُتَوَجِّهًا أَيْ: مَائِلًا (إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : وَالْجُلُوسُ، وَالْقُعُودُ مُتَرَادِفَانِ، وَمَا ذَكَرَهُ التُّورَبِشْتِيُّ، وَغَيْرُهُ أَنَّ الْقُعُودَ اسْتِعْمَالُهُ مَعَ الْقِيَامِ، وَالْجُلُوسَ مَعَ الِاضْطِجَاعِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ الْأَصْلِيُّ، أَوِ الْغَالِبُ، وَفِي رِوَايَةٍ: حَتَّى بَرَكَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا يَجْلِسُ أَحَدُنَا لِلصَّلَاةِ، وَقَوْلُ زَيْنِ الْعَرَبِ أَيْ: جَلَسَ إِلَى جَانِبِهِ، أَوْ مَعَهُ لَا يُلَائِمُهُ قَوْلُهُ: (فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ،) أَيْ: رُكْبَتَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّ الْجُلُوسَ عَلَى الرُّكْبَةِ أَقْرَبُ إِلَى التَّوَاضُعِ، وَالْأَدَبِ، وَإِيصَالُ الرُّكْبَةِ بِالرُّكْبَةِ أَبْلَغُ مِنَ الْإِصْغَاءِ، وَأَتَمُّ مِنْ حُصُولِ حُضُورِ الْقَلْبِ، وَأَكْمَلُ فِي الِاسْتِئْنَاسِ، وَأَلْزَمُ لِمُسَارَعَةِ الْجَوَابِ، وَلِأَنَّ الْجُلُوسَ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ حَاجَةِ السَّائِلِ، وَإِذَا عَرَفَ الْمَسْئُولُ حَاجَتَهُ، وَحِرْصَهُ اعْتَنَى، وَبَادَرَ إِلَيْهِ (وَوَضَعَ كَفَّهُ) أَيْ: كَفَّيِ الرَّجُلِ (عَلَى فَخِذَيْهِ،) : بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ، وَفِي الْقَامُوسِ الْفَخِذُ كَكَتِفِ مَا بَيْنَ السَّاقِ، وَالْوِرْكِ مُؤَنَّثٌ كَالْفَخْذِ، وَيُكَسَّرُ أَيْ: فَخِذَيِ الرَّجُلِ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِهَيْئَةِ الْمُتَعَلِّمِ بَيْنَ يَدَيِ الْمُعَلِّمِ، أَوْ عَلَى فَخِذَيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ، وَغَيْرِهِ، ثُمَّ وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتِي النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا بَيَّنَهُ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ، وَهُوَ الْمُلَائِمُ لِلتَّقَرُّبِ لَدَيْهِ، وَالْإِصْغَاءِ إِلَيْهِ، وَقَصَرَ النَّظَرَ عَلَيْهِ (وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ!) : قِيلَ: نَادَاهُ بِاسْمِهِ إِذِ الْحُرْمَةُ تَخْتَصُّ بِالْأُمَّةِ فِي زَمَانِهِ، أَوْ مُطْلَقًا، وَهُوَ مَلَكٌ مُعَلِّمٌ، وَيُرِيدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63] إِذِ الْخِطَابُ لِلْآدَمِيِّينَ فَلَا يَشْمَلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِدَلِيلٍ، أَوْ قُصِدَ بِهِ الْمَعْنَى الْوَصْفِيُّ دُونَ الْمَعْنَى الْعِلْمِيِّ، وَلَمْ أَرَ مَنْ ذَكَرَهُ، وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي الصِّحَاحِ مِنْ نِدَاءِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ بِاسْمِهِ فَذَاكَ قَبْلَ التَّحْرِيمِ، وَقِيلَ آثَرَهُ زِيَادَةً فِي التَّعْمِيَةِ إِذْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ لَا يُنَادِيهِ بِهِ إِلَّا الْعَرَبِيُّ الْجِلْفُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا قَبْلَ تَحْرِيمِ نِدَائِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِاسْمِهِ، قِيلَ: وَلَمْ يُسَلِّمْ مُبَالَغَةً فِي التَّعْمِيَةِ، أَوْ بَيَانًا أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ، أَوْ سَلَّمَ، وَلَمْ يَنْقُلْهُ الرَّاوِي، وَهُوَ الصَّحِيحُ لِمَا سَبَقَ مِنْ رِوَايَةِ الْإِمَامِ، وَمَنْ حَفِظَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ، وَمَنْ ذَكَرَهُ مُقْدَّمٌ عَلَى مَنْ سَكَتَ عَنْهُ؛ لِأَنَّ مَعَهُ زِيَادَةَ عِلْمٍ. نَعَمْ فِي رِوَايَةٍ قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ، وَالْجَمْعُ بِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَوَقَعَ عِنْدَ الْقُرْطُبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ، وَأُخِذَ مِنْهُ أَنَّهُ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015