الْوَعِيدِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَدْ أَتَى فِي فُتُوحٍ بِالْغَيْبِ الدَّلِيلُ، وَهُوَ أَنِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ نَظْمُ الْآيَاتِ أَنَّ الْآيَةَ مِنْ أُسْلُوبِ التَّغْلِيظِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] إِلَى قَوْلِهِ: (وَمَنْ كَفَرَ) وَبَيَانُهُ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا} [النساء: 92] دَلَّ عَلَى أَنَّ قَتْلَ الْمُؤْمِنِ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْمُسْلِمِ، وَلَا يَسْتَقِيمُ مِنْهُ، وَلَا يَصِحُّ لَهُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ إِنْ فَعَلَ خَرَجَ عَنْ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ مُؤْمِنٌ ; لِأَنَّ كَانَ هَذَا نَحْوُ كَانَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ} [مريم: 35] وَالْمَعْنَى لَمْ يَصِحَّ وَلَمْ يَسْتَقِمْ، وَقَدْ نَصَّ عَلَى هَذَا فِي الْكَشَّافِ، ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْ هَذَا قَتْلَ الْخَطَأِ تَأْكِيدًا وَمُبَالَغَةً أَيْ: لَا يَصِحُّ وَلَا يَسْتَقِيمُ إِلَّا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَهَذِهِ الْحَالَةُ مُنَافِيَةٌ لِقَتْلِ الْعَمْدِ، فَإِذًا لَا يَصِحُّ مِنْهُ قَتْلُ الْعَمْدِ أَلْبَتَّةَ، ثُمَّ ذَيَّلَ هَذِهِ الْمُبَالَغَةَ تَغْلِيظًا وَتَشْدِيدًا بِقَوْلِهِ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93] يَعْنِي كَيْفَ يَسْتَقِيمُ الْقَتْلُ مِنَ الْمُؤْمِنِ عَمْدًا، وَأَنَّهُ مِنْ شَأْنِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ جَزَاؤُهُمُ الْخُلُودُ، وَحُلُولُ غَضَبِ اللَّهِ وَلَعْنَتِهِ عَلَيْهِمْ، وَعَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ فُسِّرَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 254] إِلَى قَوْلِهِ: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254] " فَإِنَّهُ جَعَلَ تَرْكَ الزَّكَاةِ مِنْ صِفَاتِ الْكُفَّارِ أَيِ: الْكَافِرُونَ هُمُ الَّذِينَ يَتْرُكُونَ الزَّكَاةَ، فَعَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ لَا يَتَّصِفَ بِصِفَتِهِمْ، وَكِتَابُهُ مَشْحُونٌ مِنْ هَذَا الْأُسْلُوبِ، فَعَلَى هَذَا الْحَدِيثُ كَالْآيَةِ فِي التَّغْلِيظِ. قُلْتُ: لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ لَيْسَ مِثْلَهُ فِي الدَّلِيلِ، فَالْأَخْلَصُ عَنِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] أَيْ: بِلَا تَوْبَةٍ، فَإِنَّ الشِّرْكَ أَيْضًا يُغْفَرُ مَعَهَا، وَالْأَحَادِيثُ الْمُتَوَاتِرَةُ مَعْنًى مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ: " «مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ» ". فَالْحَقُّ أَنَّهُ إِنْ صَدَرَ عَنِ الْمُؤْمِنِ مِثْلُ هَذَا الذَّنْبِ فَمَاتَ وَلَمْ يَتُبْ، فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ ابْتِدَاءً أَوْ بِوَاسِطَةِ شَفَاعَةٍ، لِمَا وَرَدَ فِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ، رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، عَنْ أَنَسٍ: " «شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي» ". «وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ بِقَدْرِ مَا شَاءَ ثُمَّ يُخْرِجُهُ إِلَى الْجَنَّةِ» ". قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ خَصَّ إِحْدَى الْقَرِينَتَيْنِ: يَعْنِي مَنْ مَاتَ بِالْمَاضِي وَالْأُخْرَى بِالْمُضَارِعِ؟ قُلْتُ: تَقَرَّرَ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْمَعَانِي أَنَّ نَحْوَ: فُلَانٌ يَقْرِي الضَّيْفَ وَيَحْمِي الْحَرِيمَ، يُفِيدُ الِاسْتِمْرَارَ وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِهِ وَدَأْبِهِ، وَقَدْ سَبَقَ آنِفًا أَنَّ قَتْلَ الْعَمْدِ مِنْ شَأْنِ الْكُفَّارِ وَدَأْبِهِمْ، وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ ذَلِكَ، فَلِذَلِكَ كَانَ بِالْمُضَارِعِ أَجْدَرَ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : أَيْ: عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ.