قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا مِنَ الشُّرَّاحِ: وَمِنْ جُمْلَةِ مَا فِي الصَّحِيفَةِ: لَعَنَ اللَّهُ مَنْ غَيَّرَ مَنَارَ الْأَرْضِ، لَعَنَ اللَّهُ مَنْ تَوَلَّى غَيْرَ مَوَالِيهِ، وَلَعَلَّهُ لَمْ يَذْكُرْ جُمْلَةَ مَا فِيهَا إِذِ التَّفْصِيلُ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا أَوْ ذَكَرَ وَلَمْ يَحْفَظْهُ الرَّاوِي. قُلْتُ: وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ ذَكَرَهَا الْجَزَرِيُّ قَالَ: «سُئِلَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هَلْ خَصَّكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَيْءٍ؟ فَقَالَ: مَا خَصَّنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَيْءٍ لَمْ يَعُمَّ بِهِ النَّاسَ كَافَّةً إِلَّا مَا فِي قِرَابِ سَيْفِي هَذَا. قَالَ: فَأَخْرَجَ صَحِيفَةً مَكْتُوبٌ فِيهَا: لَعَنَ اللَّهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ سَرَقَ مَنَارَ الْأَرْضِ، وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَيْهِ، وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا» . قَالَ الْأَشْرَفُ: فِيهِ إِرْشَادٌ إِلَى أَنَّ لِلْعَالِمِ الْفَهِمِ أَنْ يَسْتَخْرِجَ مِنَ الْقُرْآنِ بِفَهْمِهِ، وَيَسْتَنْبِطَ بِفِكْرِهِ وَتَدَبُّرِهِ مَا لَمْ يَكُنْ مَنْقُولًا عَنِ الْمُفَسِّرِينَ، لَكِنْ بِشَرْطِ مُوَافَقَتِهِ لِلْأُصُولِ الشَّرْعِيَّةِ، فَفِيهِ فَتْحُ الْبَابِ عَلَى ذَوِي الْأَلْبَابِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَوْلُ الْقَاضِي: وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا فِي الصَّحِيفَةِ عَطْفٌ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ لَعَلَّهُ تَعْرِيضٌ بِتَوْجِيهِ الشَّيْخِ التُّورِبِشْتِيِّ حَيْثُ قَالَ: حَلَفَ حَلْفَةً أَنْ لَيْسَ عِنْدَهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ سِوَى الْقُرْآنِ، ثُمَّ اسْتَثْنَى اسْتِثْنَاءً أَرَادَ بِهِ اسْتِدْرَاكَ مَعْنًى اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ مَعْرِفَتُهُ فَقَالَ: إِلَّا فَهْمًا يُعْطَى رَجُلٌ فِي كِتَابِهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ التَّفَاوُتَ فِي الْعُلُومِ لَمْ يُوجَدْ مِنْ قِبَلِ الْبَلَاغِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ مِنْ قِبَلِ الْفَهْمِ، ثُمَّ قَرَنَ بِذَلِكَ مَا فِي الصَّحِيفَةِ احْتِيَاطًا فِي يَمِينِهِ وَحَذَرًا مِنْ أَنْ يَكُونَ مَا فِي الصَّحِيفَةِ عِنْدَ غَيْرِهِ فَحَسَبَ أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: إِلَّا فَهْمًا، وَلَوْ ذَهَبَ إِلَى إِجْرَاءِ الْمُتَّصِلِ مَجْرَى الْمُنْقَطِعِ عَلَى عَكْسِ قَوْلِ الشَّاعِرِ
وَبَلْدَةٍ لَيْسَ بِهَا أَنِيسٌ ... إِلَّا الْيَعَافِيرُ وَإِلَّا الْعِيسُ
فَيُؤَوَّلُ قَوْلُهُ: إِلَّا فَهْمًا يُعْطَى بِقَوْلِهِ مَا يُسْتَنْبَطُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى بِفَهْمٍ رَزَقَهُ اللَّهُ لَمْ يُسْتَبْعَدْ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى لَيْسَ عِنْدَنَا شَيْءٌ قَطُّ إِلَّا مَا فِي الْقُرْآنِ، وَمَا فِي الْفَهْمِ مِنَ الِاسْتِنْبَاطِ مِنْهُ، وَمَا فِي الصَّحِيفَةِ، وَقَدْ عُلِمَ وَحُقِّقَ أَنَّ الِاسْتِنْبَاطَ مِنَ الْقُرْآنِ مِنْهُ، وَأَنَّ مَا فِي الصَّحِيفَةِ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوصًا فِي الْقُرْآنِ أَوْ مُسْتَنْبَطًا مِنْهُ، فَيَلْزَمُ أَنْ لَا شَيْءَ خَارِجٌ عَنْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59] وَهَذَا فَنٌّ غَرِيبٌ وَأُسْلُوبٌ عَجِيبٌ، فَحِينَئِذٍ يُحَسِّنُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَصَّ أَهْلَ بَيْتِهِ مِنْ عِلْمِ الْوَحْيِ لِمَا لَمْ يَخُصَّ بِهِ غَيْرَهُمْ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَهُ خَلِيفَةً بَعْدَهُ قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الصَّنْعَانِيُّ فِي الدُّرِّ الْمُلْتَقَطِ: وَمِنَ الْمَوْضُوعِ قَوْلُهُمْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَرَضِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ: " «يَا عَلِيُّ ادْعُ بِصَحِيفَةٍ وَدَوَاةٍ ". فَأَمْلَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَتَبَ عَلِيٌّ وَشَهِدَ جِبْرِيلُ ثُمَّ طُوِيَتِ الصَّحِيفَةُ» . قَالَ الرَّاوِي: فَمَنْ حَدَّثَكُمْ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي الصَّحِيفَةِ إِلَّا الَّذِي أَمْلَاهَا وَكَتَبَهَا وَشَهِدَهَا فَلَا تُصَدِّقُوهُ، وَقَوْلُهُمْ: وَصِيِّي وَمَوْضِعُ سِرِّي وَخَلِيفَتِي فِي أَهْلِي وَخَيْرُ مَنْ أَخْلُفُ بِعْدِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
قَالَ الْجَزَرِيُّ فِي أَسْنَى الْمَنَاقِبِ: وَكَذَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَاتَّفَقَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ عَلَى إِخْرَاجِهِ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ شَرِيكٍ التَّيْمِيِّ، وَهُوَ وَالِدُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ وَلَفْظُهُ: مَا عِنْدَنَا شَيْءٌ يُقْرَأُ إِلَّا كِتَابُ اللَّهِ وَهَذِهِ الصَّحِيفَةُ: الْمَدِينَةُ حَرَامٌ. وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ طَرِيقِ قَيْسِ بْنِ عُبَادٍ، وَمِنْ طَرِيقِ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ كِلَاهُمَا عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَذَكَرَ الْجَزَرِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ قَالَ: «قُلْنَا لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: أَخْبِرْنَا بِشَيْءٍ أَسَرَّهُ إِلَيْكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: مَا أَسَرَّ إِلَيَّ شَيْئًا كَتَمَهُ اللَّهُ النَّاسَ، وَلَكِنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ: " لَعَنَ اللَّهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا، وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَيْهِ، وَلَعَنَ اللَّهُ مِنْ غَيَّرَ تُخُومَ الْأَرْضِ» ". يَعْنِي الْمَنَارَ أَيْ: الْعَلَامَةَ. قَالَ: هَذَا الْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ مِنْ طَرِيقِهِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ وَلَفْظُهُ: «كُنْتُ عِنْدَ عَلِيٍّ فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسِرُّ إِلَيْكَ؟ فَغَضِبَ، فَقَالَ: مَا كَانَ يُسِرُّ إِلَيَّ شَيْئًا يَكْتُمُهُ عَنِ النَّاسِ غَيْرَ أَنَّهُ حَدَّثَنِي بِكَلِمَاتٍ قَالَ: " لَعَنَ اللَّهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَيْهِ» ". الْحَدِيثَ. وَكَذَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَرَوَى أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: " «لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ» ".
(وَذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ: " «لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا» ". آخِرُهُ إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا ; لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ. (" فِي كِتَابِ الْعِلْمِ ") : فَأَسْقَطَهُ الْمُصَنِّفُ عَنْ تَكْرِيرٍ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَوْ أَسْقَطَ الْأَوَّلَ لَكَانَ أَوْفَقَ بِالْبَابِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.