نَفَعَنِي وَسَقَانِي مِنْ بِئْرِ أَبِي عِنَبَةَ، فَجَاءَ زَوْجُهَا فَقَالَ: مَنْ يُقَاسِمُنِي فِي ابْنِي؟ فَقَالَ: (يَا غُلَامُ هَذَا أَبُوكَ وَهَذِهِ أُمُّكَ فَخُذْ بِيَدِ أَيِّهِمَا شِئْتَ) فَأَخَذَ بِيَدِ أُمِّهِ، فَانْطَلَقَتْ بِهِ» .

قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: أَخْرَجَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ الْأَرْبَعَةُ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَلِأَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ فِيهِ قِصَّةٌ لِأَبِي هُرَيْرَةَ قَبْلَ أَنْ يَرْوِيَ الْحَدِيثَ حَاصِلُهَا، أَنَّهُ خَيَّرَ غُلَامًا فِي وَاقِعَةٍ رُفِعَتْ إِلَيْهِ، ثُمَّ رَوَى الْحَدِيثَ: وَلَفْظُهُ: «سَمِعْتُ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا قَاعِدٌ عِنْدَهُ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ زَوْجِي يُرِيدُ أَنْ يَذْهَبَ بِابْنِي وَقَدْ سَقَانِي مِنْ بِئْرِ أَبِي عِنَبَةَ، وَقَدْ نَفَعَنِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: (اسْتَهِمَا عَلَيْهِ) . فَقَالَ زَوْجُهَا: مَنْ يُحَاقُّنِي فِي وَلَدِي، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ السَّلَامُ: (هَذَا أَبُوكَ وَهَذِهِ أُمُّكَ فَخُذْ بِيَدِ أَيِّهِمَا شِئْتَ) . فَأَخَذَ بِيَدِ أُمِّهِ، فَانْطَلَقَتْ» ، فَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ، يَعْنِي صَاحِبَ الْهِدَايَةِ بِالْمَعْنَى عَلَى عَدَمِ التَّخْيِيرِ وَهُوَ ظَاهِرٌ. وَأَجَابَ عَنِ الْحَدِيثِ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - دَعَا أَنْ يُوَفَّقَ لِاخْتِيَارِ الْأَنْظَرِ عَلَى مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي الطَّلَاقِ، وَالنَّسَائِيُّ فِي الْفَرَائِضِ عِنْدَ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ رَافِعِ بْنِ سِنَانٍ أَنَّهُ أَسْلَمَ وَأَبَتِ امْرَأَتُهُ، فَجَاءَ بِابْنٍ لَهُمَا - ابْنٍ لَهُ - صَغِيرٍ لَمْ يَبْلُغْ، فَأَجْلَسَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْأَبَ هُنَا وَالْأُمَّ هَنَا ثُمَّ خَيَّرَهُ وَقَالَ: (اللَّهُمَّ اهْدِهِ لِأَبِيهِ) . وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: أَنَّهُ أَسْلَمَ وَأَبَتْ أُمُّهُ أَنْ تُسْلِمَ، فَأَتَتِ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَقَالَتِ: ابْنَتِي وَهِيَ فَطِيمٌ، وَقَالَ رَافِعٌ: ابْنَتِي، فَأَقْعَدَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْأُمَّ نَاحِيَةً وَالْأَبَ نَاحِيَةً وَأَقْعَدَهَا نَاحِيَةً وَقَالَ لَهُمَا: (ادْعُوَاهَا) فَمَالَتِ الصَّبِيَّةُ إِلَى أُمِّهَا. فَقَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: (اللَّهُمَّ اهْدِهَا) فَمَالَتْ إِلَى أَبِيهَا فَأَخَذَهَا. وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَسَمَّى الْبِنْتَ عُمَيْرَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ وَالنَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ أَنَّ أَبَوَيْنِ اخْتَصَمَا فِي وَلَدٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَحَدُهُمَا كَافِرٌ، فَخَيَّرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَوَجَّهَ إِلَى الْكَافِرِ فَقَالَ: (اللَّهُمَّ اهْدِهِ) . فَتَوَجَّهَ إِلَى الْمُسْلِمِ، فَقَضَى لَهُ بِهِ. ثَانِيهِمَا: أَنَّهُ كَانَ بَالِغًا بِدَلِيلِ الِاسْتِقَاءِ مِنْ بِئْرِ أَبِي عِنَبَةَ، وَمَنْ هُوَ دُونَ الْبُلُوغِ لَا يُرْسَلُ إِلَى الْآبَارِ لِلِاسْتِقَاءِ لِلْخَوْفِ عَلَيْهِ مِنَ السُّقُوطِ فِيهِ لِقِلَّةِ عَقْلِهِ وَتَحَجُّزِهِ عَنْهُ غَالِبًا، وَنَحْنُ نَقُولُ: إِذَا بَلَغَ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالسَّكَنِ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ أَيِّهِمَا أَرَادَ إِلَّا أَنْ يَبْلُغَ سَفِيهًا مُفْسِدًا، فَحِينَئِذٍ يَضُمُّهُ إِلَى نَفْسِهِ اعْتِبَارًا لِنَفْسِهِ بِمَالِهِ، وَلِهَذَا صَحَّ أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يُخَيِّرُوا عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قِصَّةِ عُمَرَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ، وَأَمَّا مَا أَسْنَدَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ خَيَّرَ ابْنًا فَاخْتَارَ أُمَّهُ، فَانْطَلَقَتْ بِهِ، فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ عَرَفَ مَيْلَ الِابْنِ إِلَى أُمِّهِ، وَهِيَ فِي الْوَاقِعِ أَحَقُّ بِحَضَانَتِهِ، فَأَحَبَّ تَطْيِبَ قَلْبِ الْأَبِ مِنْ غَيْرِ مُخَالَفَةٍ لِلشَّرْعِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يُرَاجِعْ أَبَا بَكْرٍ الْكَلَامَ، وَالْجَوَابُ: أَنَّ عَدَمَ الْمُرَاجَعَةِ لَيْسَ دَلِيلًا ; لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ إِمَامًا يَجِبُ نَفَاذُ مَا حَكَمَ بِهِ رَأْيُهُ، وَإِنْ خَالَفَ رَأْيَ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ، فَالْوَجْهُ مَا ذَكَرْنَا لِيُوَافِقَ الْمَرْوِيَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِمَّا قَدَّمْنَاهُ أَوَّلَ الْبَابِ.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015