كِتَابُ الْبُيُوعِ
بَابُ الْكَسْبِ وَطَلَبِ الْحَلَالِ
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
2759 - عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدَيْهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدَيْهِ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كِتَابُ الْبُيُوعِ
قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: تَقُولُ الْعَرَبُ: بِعْتُ بِمَعْنَى مَا كُنْتُ مَلَكْتُهُ، وَبِعْتُ بِمَعْنًى لِاشْتَرَيْتُ، وَكَذَلِكَ شَرَيْتُ بِالْمَعْنَيَيْنِ، لِأَنَّ الثَّمَنَ وَالْمُثَمَّنَ كُلٌّ مِنْهُمَا مَبِيعٌ، وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: عَرَفَ أَنَّ مَشْرُوعَاتِ الشَّارِعِ مُنْقَسِمَةٌ إِلَى حُقُوقِ اللَّهِ - تَعَالَى - خَالِصَةٌ، وَحُقُوقَ الْعِبَادِ خَالِصَةٌ، وَمَا اجْتَمَعَ فِيهِ الْحَقَّانِ، وَحَقُّهُ - تَعَالَى - غَالِبٌ وَمَا اجْتَمَعْنَا فِيهِ، وَحَقُّ الْعِبَادِ غَالِبٌ،، فَحُقُوقُهُ - تَعَالَى - عِبَادَاتٌ وَعُقُوبَاتٌ وَكَفَّارَاتٌ، فَابْتَدَأَ الْمُصَنِّفُ بِحُقُوقِ اللَّهِ - تَعَالَى - الْخَالِصَةِ، حَتَّى أَتَى عَلَى آخِرِ أَنْوَاعِهَا، ثُمَّ شَرَعَ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ وَهِيَ الْمُعَامَلَاتُ، ثُمَّ الْبَيْعُ مَصْدَرٌ، فَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْمَفْعُولُ فَيُجْمَعُ كَالْجَمْعِ الْمَبِيعِ، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْمَعْنَى وَهُوَ الْأَصْلُ، فَجَمْعُهُ بِاعْتِبَارِ أَنْوَاعِهِ: فَإِنَّ الْبَيْعَ يَكُونُ سَلَمًا، وَهُوَ بَيْعُ الدَّيْنِ بِالْعَيْنِ، وَقَلْبُهُ وَهُوَ الْبَيْعُ الْمُطْلَقُ، وَصَرْفًا: وَهُوَ بَيْعُ الثَّمَنِ بِالثَّمَنِ، وَمُقَابَضَةً: وَهُوَ بَيْعُ الْعَيْنِ بِالْعَيْنِ وَبِخِيَارٍ وَمُنْجَزًا، وَمُؤَجَّلَ الثَّمَنِ وَمُرَابَحَةً، وَتَوْلِيَةً، وَوَضِيعَةً وَغَيْرَ ذَلِكَ. وَالْبَيْعُ مِنَ الْأَضْدَادِ يُقَالُ: بَاعَ إِذَا أَخْرَجَ الْعَيْنَ عَنْ مِلْكِهِ إِلَيْهِ، وَبَاعَهُ إِذَا اشْتَرَاهُ، وَيَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ بِالْحَرْفِ يُقَالُ: بَاعَ زَيْدٌ الثَّوْبَ وَبَاعَهُ مِنْهُ.
وَأَمَّا مَفْهُومُهُ لُغَةً وَشَرْعًا فَقَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ: الْبَيْعُ لُغَةً مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ، وَكَذَا فِي الشَّرْعِ، لَكِنَّ زِيدَ فِيهِ قَيْدُ التَّرَاضِي، وَشَرْعِيَّةُ الْبَيْعِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَهُوَ قَوْلُهُ - تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] وَالسُّنَّةَ، وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَالنَّاسُ يَتَبَايَعُونَ فَقْرَهُمْ عَلَيْهِ، وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَيْهِ، وَسَبَبُ شَرْعِيَّتِهِ تَعَلُّقُ الْبَقَاءِ الْمَعْلُومِ فِيهِ لِلَّهِ - تَعَالَى - عَلَى وَجْهٍ جَمِيلٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَوِ اسْتَقَلَّ بِابْتِدَاءِ بَعْضِ حَاجَاتِهِ مِنْ حَرْثِ الْأَرْضِ، ثُمَّ بَذْرِ الْقَمْحِ وَخِدْمَتِهِ وَحِرَاثَتِهِ وَحَصْدِهِ وَدِرَاسَتِهِ ثُمَّ تَذْرِيَتِهِ ثُمَّ تَنْظِيفِهِ وَطَحْنِهِ بِيَدِهِ وَعَجْنِهِ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ.
وَفِي الْكَتَّانِ وَالصُّوفِ لُبْسُهُ، وَبِنَاءُ مَا يُظِلُّهُ مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَدْفَعَهُ الْحَاجَةُ إِلَى أَنْ يَشْتَرِيَ شَيْئًا مُزَاوَلَةَ شَيْءٍ، فَلَوْ لَمْ يُشْرَعِ الْبَيْعُ سَبَبًا لِلتَّمْلِيكِ فِي الْبَدَلَيْنِ لَاحْتَاجَ إِلَى أَنْ يُؤْخَذَ عَلَى التَّغَالُبِ وَالْمُقَاهَرَةِ، أَوِ السُّؤَالِ، وَالشِّحَاذَةِ أَوْ يَصْبِرَ حَتَّى يَمُوتَ، وَفِي كُلٍّ مِنْهَا مَا لَا يَخْفَى مِنَ الْفَسَادِ، وَفِي الثَّانِي مِنَ الذُّلِّ وَالصَّغَارِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ كُلُّ أَحَدٍ، وَيُزْرِي بِصَاحِبِهِ، فَكَانَ فِي شَرْعِيَّتِهِ بَقَاءُ الْمُكَلَّفِينَ الْمُحْتَاجِينَ وَدَفْعُ حَاجَاتِهِمْ عَلَى النِّظَامِ الْحَسَنِ.
[1] بَابُ الْكَسْبِ
أَيْ تَبْيِينُ فَضْلِهِ وَتَعْيِينُ طَيِّبِهِ وَخَبِيثِهِ (وَطَلَبِ الْحَلَالِ) : أَيْ: وَاجْتِنَابِ الْحَرَامِ الَّذِي مِنْ لَوَازِمِهِ، وَكَوْنُهُ فَرْضًا بَعْدَ الْفَرْضِ أَوْ قَبْلَهُ، وَالثَّانِي أَظْهَرُ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى: {كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون: 51] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
2759 - (عَنِ الْمِقْدَامِ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ (ابْنِ مَعْدِي كَرِبَ) : بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ) : بِفَتْحِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الطَّاءِ أَيْ أَبْدًا (خَيْرًا) : أَيْ: أَفْضَلَ أَوْ أَحَلَّ أَوْ أَطْيَبَ (مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدَيْهِ) : بِالثَّنْيَةِ لِأَنَّ غَالِبَ الْمُزَاوِلَةِ بِهِمَا (وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) : وَهُوَ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ، وَخُصَّ بِالذِّكْرِ لِتَعْلِيمِ اللَّهِ - تَعَالَى - إِيَّاهُ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ} [الأنبياء: 80] . (كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدَيْهِ) : قَالَ الْمُظْهِرُ: فِيهِ تَحْرِيضٌ عَلَى الْكَسْبِ الْحَلَالِ، فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ فَوَائِدَ كَثِيرَةً. مِنْهَا: إِيصَالُ النَّفْعِ إِلَى الْمُكْتَسِبِ بِأَخْذِ الْأُجْرَةِ إِنْ كَانَ الْعَمَلُ لِغَيْرِهِ،