تَرَقِّيًا ثُمَّ تَدَلِّيًا (وَأَصَابَ) ، أَيِ: الْغَيْثُ (مِنْهَا) : أَيْ مِنَ الْأَرْضِ (طَائِفَةً) ، أَيْ: قِطْعَةً (أُخْرَى، إِنَّمَا هِيَ) : تِلْكَ الطَّائِفَةُ (قِيعَانٌ) : بِكَسْرِ الْقَافِ جَمْعُ قَاعٍ وَهِيَ الْأَرْضُ الْمُسْتَوِيَةُ (لَا تُمْسِكُ مَاءً، وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً) : لِأَنَّهَا سَبْخَةٌ (فَذَلِكَ) ، أَيِ: الْمَذْكُورُ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَرْضِ (مِثْلُ مَنْ فَقُهَ) : بِضَمِّ الْقَافِ وَكَسْرِهَا، وَالْمَشْهُورُ الضَّمُّ إِذَا فَهِمَ وَأَدْرَكَ الْكَلَامَ، وَالضَّمُّ أَجْوَدُ لِدَلَالَتِهِ عَلَى أَنَّ الْفِقْهَ الشَّرْعِيَّ صَارَ سَجِيَّةً لَهُ (فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ اللَّهُ بِمَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ) ، أَيْ: بِالْعَمَلِ (فَعَلِمَ وَعَلَّمَ) : بِتَشْدِيدِ اللَّامِ. هَذَا مَثَلُ الطَّائِفَةِ الْأُولَى الَّتِي قَبِلَتِ الْمَاءَ وَأَنْبَتَتِ الْكَلَأَ، فَقَبُولُ الْمَاءِ إِشَارَةٌ إِلَى الْعِلْمِ، وَإِنْبَاتُ الْكَلَأِ إِشَارَةٌ إِلَى التَّعْلِيمِ، كَذَا قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ (وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ) ، أَيْ: بِمَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ (رَأْسًا) ، أَيْ: لِلتَّكَبُّرِ كَمَا فِي نُسْخَةٍ، يُقَالُ: لَمْ يَرْفَعْ فُلَانٌ رَأْسَهُ بِهَذَا أَيْ لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ مِنْ غَايَةِ تَكَبُّرِهِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: عَدَمُ رَفْعِ رَأْسِهِ بِالْعِلْمِ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِهِ لِعَدَمِ الْعَمَلِ، أَوِ الْإِعْرَاضِ عَنْهُ إِلَى حُطَامِ الدُّنْيَا، وَهَذَا مِثْلُ الطَّائِفَةِ الَّتِي لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً (وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ) : بِضَمِّ الْهَاءِ وَفَتْحِ الدَّالِ (وَالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ) . قَالَ الطِّيبِيُّ: عَطْفٌ تَفْسِيرِيٌّ، وَفِي الْحَدِيثِ: إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الِاسْتِعْدَادَاتِ لَيْسَتْ بِمُكْتَسَبَةٍ، بَلْ هِيَ مَوَاهِبُ رَبَّانِيَّةٌ وَكَمَالُهَا أَنْ تَسْتَفِيضَ مِنْ مِشْكَاةِ النُّبُوَّةِ، فَلَا خَيْرَ فِيمَنْ يَشْتَغِلُ بِغَيْرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَأَنَّ الْفَقِيهَ مَنْ عَلِمَ وَعَمِلَ.
قَالَ الْمُظْهِرُ: ذَكَرَ فِي تَقْسِيمِ الْأَرْضِ ثَلَاثَةً، وَفِي تَقْسِيمِ النَّاسِ قِسْمَيْنِ: مَنْ فَقُهَ وَمَنْ أَبَى وَلَمْ يَرْفَعْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ وَالثَّانِيَ مِنَ الْأَرْضِ كَقِسْمٍ وَاحِدٍ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مُنْتَفِعٌ بِهِ، وَكَذَلِكَ النَّاسُ قِسْمَانِ: مَنْ يَقْبَلُ الْعِلْمَ وَأَحْكَامَ الدِّينِ وَمَنْ لَمْ يَقْبَلْهُمَا، وَأَمَّا فِي الْحَقِيقَةِ فَالنَّاسُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَنْ يَقْبَلُ بِقَدْرِ مَا يَعْمَلُ بِهِ وَلَا يَبْلُغُ دَرَجَةَ الْفَتْوَى وَالتَّدْرِيسِ، وَثَانِيهَا: مَنْ يَبْلُغُهُمَا، وَثَالِثُهَا: مَنْ لَا يَقْبَلُ الْعِلْمَ.
قَالَ الطِّيبِيُّ: اتَّفَقَ الشَّارِحُونَ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي، وَالْحَدِيثُ يَنْصُرُ الْأَوَّلَ، فَعَلَى هَذَا ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ الطَّرَفَانِ الْعَالِي فِي الِاهْتِدَاءِ، وَالْغَالِي فِي الضَّلَالِ، وَتَرَكَ قِسْمَانِ مَنِ انْتَفَعَ بِالْعِلْمِ فِي نَفْسِهِ وَمَنْ لَمْ يَنْتَفِعْ فِي نَفْسِهِ وَلَكِنْ نَفَعَ فِي غَيْرِهِ اهـ. وَجَعَلَ الْخَطَّابِيُّ الْقِسْمَةَ ثُنَائِيَّةً بِجَعْلِ الْعُلَمَاءِ قِسْمًا وَالْجُهَلَاءِ قِسْمًا، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: دَلَالَةُ اللَّفْظِ عَلَى كَوْنِ النَّاسِ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ غَيْرُ ظَاهِرَةٍ اهـ.
وَخَالَفَهُمُ ابْنُ حَجْرٍ وَجَعَلَ الْقِسْمَةَ ثُلَاثِيَّةً، وَأَغْرَبَ حَيْثُ جَعَلَ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ أَفْضَلَهَا مَعَ أَنَّ التَّشْبِيهَ بِالْأَرْضِ لَا يُسَاعِدُهُ، ثُمَّ أَخْطَأَ فِي اجْتِهَادِهِ حَيْثُ جَعَلَ الطَّبَقَةَ الْعُلْيَا مُنْحَصِرَةً فِي الْفُقَهَاءِ، وَجَعَلَ بَقِيَّةَ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَالْقُرَّاءِ وَغَيْرِهِمْ فِي الطَّبَقَةِ السُّفْلَى، وَجَعَلَهُمْ كَالْأَتْبَاعِ لِلطَّائِفَةِ الْأُولَى، وَالصَّوَابُ أَنَّ كُلَّ مَنْ فَاقَ أَقْرَانَهُ فِي فَنٍّ مِنَ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ غَيْرِ اخْتِصَاصٍ بِالْفُرُوعِ الْفِقْهِيَّةِ فَهُوَ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ وَالْعُلَمَاءِ الرَّاسِخِينَ الْكَامِلِينَ الْمُكَمِّلِينَ، فَكَأَنَّهُ ذُهِلَ عَنْ قَوْلِ حُجَّةِ الْإِسْلَامِ الْغَزَّالِيِّ: ضَيَّعْتُ قِطْعَةً مِنَ الْعُمُرِ الْعَزِيزِ فِي تَصْنِيفِ الْبَسِيطِ وَالْوَسِيطِ وَالْوَجِيزِ، لَكِنَّهُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ - كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 60 - 53] فَالْأَظْهَرُ كَلَامُ الْمُظْهِرِ فِي هَذَا الْمَقَامِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْمَرَامِ.
ثُمَّ لَا يَخْفَى مَا فِي التَّشْبِيهِ مِنَ اللَّطَافَةِ حَيْثُ جَعَلَ الْعِلْمَ الْحَاصِلَ بِسَبَبِ الْوَحْيِ مُشَبَّهًا بِالْمَاءِ النَّازِلِ مِنَ السَّمَاءِ، ثُمَّ إِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ قَاسِمٌ وَوَاسِطَةٌ فِي إِيصَالِ الْفَيْضِ مِنَ الْحَقِّ إِلَى الْخَلْقِ مُشَبَّهٌ بِالسَّحَابِ الْعَامِّ لِجَمِيعِ الْعَالَمِ وَقُلُوبِ الْعِبَادِ مُشَبَّهَةٌ بِالْأَرَاضِي الْمُخْتَلِفَةِ، فَالْأَوَّلُ مِنْ تَشْبِيهِ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ وَغَيْرُهُ مِنْ قَبِيلِ