الْقُرْآنَ كُلَّهُ فِي حَيَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، لِجَوَازِ النِّسْيَانِ بَعْدَ الْحِفْظِ، فَلَمَّا سَمِعُوا الْمُنَسَّى مِنْ غَيْرِهِمْ تَذَكَّرُوا، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْآتِي: فَقَدْتُ آيَةً مِنَ الْأَحْزَابِ {لَقَدْ جَاءَكُمْ} [التوبة: 128] بَدَلٌ مِنْ " آخِرِ " {رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 128] حَتَّى خَاتِمَةِ بَرَاءَةَ) قَالَ فِي الْإِتْقَانِ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ قَالَ: قَدِمَ عُمَرُ فَقَالَ: مَنْ كَانَ تَلَقَّى مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ فَلْيَأْتِ بِهِ وَكَانُوا يَكْتُبُونَ ذَلِكَ فِي الصُّحُفِ وَالْأَلْوَاحِ وَالْعُسُبِ، وَكَانَ لَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا حَتَّى يَشْهَدَ شَاهِدَانِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ زَيْدًا كَانَ لَا يَكْتَفِي بِمُجَرَّدِ وِجْدَانِهِ مَكْتُوبًا حَتَّى يَشْهَدَ بِهِ مَنْ تَلَقَّاهُ سَمَاعًا، مَعَ كَوْنِ زِيدٍ كَانَ يَحْفَظُهُ، فَكَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ مُبَالَغَةً فِي الِاحْتِيَاطِ، قَالَ السَّخَاوِيُّ فِي جَمَالِ الْقُرَّاءِ: الْمُرَادُ إِنَمَا يَشْهَدَانِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْمَكْتُوبَ كُتِبَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَوِ الْمُرَادُ يُشْهِدَانِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ، قَالَ أَبُو شَامَةَ: وَكَانَ غَرَضُهُمْ أَنْ لَا يُكْتَبَ إِلَّا مِنْ عَيْنِ مَا كُتِبَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ وَفَاتِهِ، وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمَصَاحِفِ عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ جَمَعَ الْقُرْآنَ أَبُو بَكْرٍ، وَكَتَبَهُ زَيْدٌ، وَكَانَ النَّاسُ يَأْتُونَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فَكَانَ لَا يَكْتُبُ آيَةً إِلَّا بِشَاهِدَيْ عَدْلٍ، وَإِنَّ آخِرَ سُورَةِ بَرَاءَةَ لَمْ يُوجَدْ إِلَّا مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ، فَقَالَ: اكْتُبُوهَا، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ شَهَادَتَهُ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ، فَكَتَبَ، وَإِنَّ عُمَرَ أَتَى بِآيَةِ الرَّجْمِ فَلَمْ يَكْتُبْهَا لِأَنَّهُ كَانَ وَحْدَهُ اهـ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُمْ مَا جَمَعُوا إِلَّا بَعْدَ مَا ثَبَتَ عِنْدَهُمْ بِالدَّلِيلِ الْقَطْعِيِّ لَفْظُهُ، وَبِالدَّلِيلِ الظَّنِّيِّ كِتَابَتُهُ (فَكَانَتِ الصُّحُفُ) أَيْ: بَعْدَ الْجَمْعِ (عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ: ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ فِي حَيَاتِهِ) أَيْ: أَيَّامَهُمَا (ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ) أَيْ: إِلَى أَنْ أَخَذَ مِنْهَا عُثْمَانُ فَجَمَعَ جَمْعًا ثَانِيًا، أَوْ ثَالِثًا لِلْقُرْآنِ، وَسَبَبُ وَضْعِ الصُّحُفِ عِنْدَهَا عَدَمُ خَلِيفَةٍ مُتَعَيِّنٍ فِي حَيَاتِهِ وَهِيَ بِنْتُهُ وَأُمُّ الْمُؤْمِنِينَ فَخَصَّهَا بِهَا (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) ، وَجَاءَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - أَنَّهُ قَالَ: أَعْظَمُ النَّاسِ فِي الْمَصَاحِفِ أَجْرًا أَبُو بَكْرٍ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى أَبِي بَكْرٍ - هُوَ أَوَّلُ مَنْ جَمَعَ كِتَابَ اللَّهِ، وَلَا يُعَارِضُ هَذَا مَا فِي أَثَرٍ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا مَاتَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آلَيْتُ أَنْ لَا آخُذَ عَلَيَّ رِدَائِي إِلَّا لِصَلَاةِ جُمُعَةٍ حَتَّى أَجْمَعَ الْقُرْآنَ، فَجَمَعَهُ، لِأَنَّ هَذَا ضَعِيفٌ، وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ فَمُرَادُهُ بِجَمْعِهِ حَفِظُهُ فِي صَدْرِهِ، أَوِ الْمُرَادُ بِجَمْعِهِ جَمْعُهُ بِانْفِرَادِهِ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ النُّقْصَانَ، وَالْمُرَادُ بِجَمْعِ أَبِي بَكْرٍ جَمْعُهُ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعِبْرَةَ لِهَذَا الْجَمْعِ لِعَدَمِ احْتِمَالِ الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ فَهُوَ أَوْلَى بِأَنْ يُقَالَ لَهُ الْأَوَّلُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا جَاءَ أَنَّهُ بَعْدَ بَيْعَةِ أَبِي بَكْرٍ قَعَدَ فِي بَيْتِهِ فَقِيلَ لِأَبِي بَكْرٍ قَدْ كَرِهَ بَيْعَتَكَ فَأَرْسِلْ إِلَيْهِ، فَقَالَ: كَرِهْتَ بَيْعَتِي، قَالَ: لَا وَاللَّهِ، قَالَ: مَا أَقْعَدَكَ عَنِّي، قَالَ، رَأَيْتُ كِتَابَ اللَّهِ يُزَادُ فِيهِ فَحَدَّثْتُ نَفْسِي أَنْ لَا أَلْبَسَ رِدَائِي إِلَّا لِصَلَاةِ جُمُعَةٍ حَتَّى أَجْمَعَهُ، قَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: نِعْمَ مَا رَأَيْتَ، وَكَذَا مَا جَاءَ بِسَنَدٍ مُنْقَطِعٍ: أَوَّلُ مَنْ جَمَعَ الْقُرْآنَ فِي مُصْحَفٍ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، أَقْسَمَ لَا أَرْتَدِي بِرِدَاءٍ حَتَّى أَجْمَعَهُ، فَجَمَعَهُ، وَفِي رِوَايَةٍ رِجَالُهَا ثِقَاتٌ لَكِنْ فِي سَنَدِهَا انْقِطَاعٌ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ لِعُمَرَ وَلِزَيْدٍ: اقْعُدَا عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَمَنْ جَاءَ بِشَاهِدٍ عَلَى شَيْءٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَاكْتُبَاهُ، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: كَانَ الْمُرَادُ بِشَاهِدَيْنِ الْحِفْظَ وَالْكِتَابَةَ، قَالَ الْحَارِثُ الْمُحَاسِبِيُّ فِي فَهْمِ السُّنَنِ: كِتَابَةُ الْقُرْآنِ لَيْسَتْ مُحْدَثَةً لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَأْمُرُ بِكِتَابَتِهِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ مُفَرَّقًا فَجَمَعَهُ الصِّدِّيقُ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ أَوْرَاقٍ وُجِدَتْ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا الْقُرْآنُ مُنْتَشِرًا فَجَمَعَهَا جَامِعٌ وَرَبَطَهَا بِخَيْطٍ حَتَّى لَا يَضِيعَ مِنْهَا شَيْءٌ، وَإِنَّمَا وَقَعَتِ الثِّقَةُ بِهَذِهِ الرِّقَاعِ وَنَحْوِهَا وَصُدُورِ الرِّجَالِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُبْدُونَ عَنْ تَأْلِيفٍ مُعْجِزٍ وَنَظْمٍ مَعْرُوفٍ، قَدْ شَاهَدُوا تِلَاوَتَهُ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِشْرِينَ سَنَةً، فَكَانَ تَزْوِيرُ مَا لَيْسَ مِنْهُ مَأْمُونًا وَإِنَّمَا كَانَ الْخَوْفُ مِنْ ذَهَابِ شَيْءٍ مِنْهُ، اهـ مُلَخَّصًا.
وَفَى مُوَطَّأِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ بِسَنَدِهِ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: جَمَعَ أَبُو بَكْرٍ الْقُرْآنَ فِي قَرَاطِيسَ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ زَيْدٍ: أَمَرَنِي أَبُو بَكْرٍ فَكَتَبْتُهُ فِي قِطَعِ الْأَدِيمِ وَالْعُسُبِ، فَلَمَّا هَلَكَ أَبُو بَكْرٍ وَكَانَ عُمَرُ كُتِبَ ذَلِكَ فِي صَحِيفَةٍ وَاحِدَةٍ فَكَانَتْ عِنْدَهُ، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: الْأَوَّلُ أَصَحُّ إِنَّمَا كَانَ فِي الْأَدِيمِ وَالْعُسُبِ أَوَّلًا قَبْلَ أَنْ يُجْمَعَ فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ جُمِعَ فِي الْمُصْحَفِ فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآثَارُ الصَّحِيحَةُ الْمُتَرَادِفَةُ، قُلْتُ: يُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّهُ كَانَ فِي الْأَدِيمِ وَالْعُسُبِ أَوَّلًا مُتَفَرِّقًا عِنْدَ النَّاسِ غَيْرَ مُرَتَّبٍ فَجُمِعَ جَمْعًا مُرَتَّبًا بَيْنَ الْآيَةِ وَالسُّوَرِ، غَيْرَ أَنَّهُ كُتِبَ فِي قِطَعِ الْأَدِيمِ وَالْعُسُبِ عَلَى وَجْهِ التَّعْقِيبِ وَكَانَ الْمَجْمُوعُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ جُمِعَ فِي صَحِيفَةٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ فِي صُحُفٍ بِالْكِتَابَةِ عَلَى الْوَرَقِ أَوِ الرَّقِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.