الْمَحْمِيُّ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ (فَأُحْمِيَ عَلَيْهَا) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ نَائِبُ الْفَاعِلِ، أَيْ أُوقِدَ عَلَيْهَا ذَاتُ حِمًى وَحَرٍّ شَدِيدٍ، مِنْ قَوْلِهِ {نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة: 11] فَفِيهِ مُبَالَغَةٌ لَيْسَتْ فِي " فَأُحْمِيَتْ فِي نَارِ "، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالضَّمِيرُ فِي عَلَيْهَا إِلَى الْفِضَّةِ فَالْفَاءُ تَفْسِيرِيَّةٌ، وَقِيلَ: الضَّمِيرُ إِلَى الصَّفَائِحِ النَّارِيَّةِ، أَيْ تُحْمَى مَرَّةً ثَانِيَةً (فِي نَارِ جَهَنَّمَ) لِيَشْتَدَّ حَرُّهَا فَالْفَاءُ تَعْقِيبِيِّةٌ (فَيُكْوَى بِهَا) أَيْ بِتِلْكَ الْفِضَّةِ أَوْ بِتِلْكَ الصَّفَائِحِ (جَنْبُهُ وَجَبِينُهُ وَظَهْرُهُ) قِيلَ: لِأَنَّهُ ازْوَرَّ عَنِ الْفَقِيرِ وَأَعْرَضَ عَنْهُ، وَعَبَسَ لَهُ وَجْهُهُ، وَبِشْرُهُ، وَوَلَّاهُ عِنْدَ الْإِلْحَاحِ ظَهْرَهُ، فَيُكْوَى بِمَالِهِ أَعْضَاؤُهُ الَّتِي آذَى الْفَقِيرَ بِهَا، وَقِيلَ: لِأَنَّهَا أَشْرَفُ الْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ، لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الْأَعْضَاءِ الرَّئِيسَةِ، الَّتِي هِيَ الدِّمَاغُ وَالْقَلْبُ وَالْكَبِدُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْجِهَاتُ الْأَرْبَعُ، الَّتِي هِيَ مِنْ مَقَادِيمِ الْبَدَنِ وَمُؤَخَّرِهِ وَجَنْبَاهُ (كُلَّمَا رُدَّتْ) أَيْ عَنْ بَدَنِهِ إِلَى النَّارِ (أُعِيدَتْ) أَيْ أَشَدَّ مَا كَانَتْ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ كُلَّمَا بَرُدَتْ رُدَّتْ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ، لِيُحْمَى عَلَيْهَا، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الِاسْتِمْرَارُ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَعْنِي إِذَا وَصَلَ كَيُّ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا أُعِيدَ الْكَيُّ إِلَى أَوَّلِهَا، حَتَّى وَصَلَ إِلَى آخِرِهَا اهـ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي رُدَّتْ رَاجِعًا إِلَى الْأَعْضَاءِ، أَيْ كُلَّمَا رُدَّتِ الْأَعْضَاءُ بِالتَّبْدِيلِ بَعْدَ الْإِحْرَاقِ وَالْقُرْبِ مِنَ الْإِفْنَاءِ أُعِيدَتِ الصَّفَائِحُ عَلَيْهَا، فَيَكُونُ مُوَافِقًا لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء: 56] (لَهُ) أَيْ لِمَانِعِ الزَّكَاةِ (فِي يَوْمٍ) وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) أَيْ عَلَى الْكَافِرِينَ، وَيَطُولُ عَلَى بَقِيَّةِ الْعَاصِينَ، بِقَدْرِ ذُنُوبِهِمْ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ الْكَامِلُونَ فَهُوَ عَلَى بَعْضِهِمْ كَرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، وَأَشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - {يَوْمٌ عَسِيرٌ - عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} [المدثر: 9 - 10] (حَتَّى يُقْضَى) عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ أَيْ يُحْكَمَ (بَيْنَ الْعِبَادِ) وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ فِي الْعَذَابِ وَبَقِيَّةَ الْخَلْقِ فِي الْحِسَابِ، وَلِذَا قِيلَ: الدُّنْيَا حَلَالُهَا حِسَابٌ وَحَرَامُهَا عِقَابٌ (فَيُرَى) عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ الرُّؤْيَةِ أَوِ الْإِرَاءَةِ وَقَوْلُهُ (سَبِيلُهُ) مَرْفُوعٌ عَلَى الْأَوَّلِ، وَمَنْصُوبٌ بِالْمَفْعُولِ الثَّانِي عَلَى الثَّانِي، وَفِي نُسْخَةٍ: فَيَرَى بِالْمَعْلُومِ مِنَ الرُّؤْيَةِ، أَيْ هُوَ سَبِيلُهُ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ضَبَطْنَاهُ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِهَا وَبِرَفْعِ لَامِ سَبِيلِهِ وَنَصْبِهَا، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَسْلُوبَ الِاخْتِيَارِ يَوْمَئِذٍ مَقْهُورٌ، لَا يَقْدِرُ أَنْ يَرُوحَ إِلَى النَّارِ، فَضْلًا عَنِ الْجَنَّةِ، حَتَّى يُعَيَّنَ لَهُ أَحَدُ السَّبِيلَيْنِ (إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ) إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَنْبٌ سِوَاهُ وَكَانَ الْعَذَابُ تَكْفِيرًا لَهُ (وَإِمَّا إِلَى النَّارِ) إِنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ يَقُولُ إِنَّ الْآيَةَ مُخْتَصَّةٌ بِأَهْلِ الْكِتَابِ، وَيُؤَيِّدُهُ الْقَاعِدَةُ الْأُصُولِيَّةُ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، مَعَ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى خُلُودِهِ فِي النَّارِ، وَبِهَذَا يُعْلَمُ ضَعْفُ قَوْلِ ابْنِ حَجَرٍ أَيْضًا، إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ إِنْ كَانَ مُؤْمِنًا بِأَنْ لَمْ يَسْتَحِلَّ تَرْكَ الزَّكَاةِ، وَإِمَّا إِلَى النَّارِ إِنْ كَانَ كَافِرًا بِأَنِ اسْتَحَلَّ تَرْكَهَا، (قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَالْإِبِلُ) أَيْ هَذَا حُكْمُ النُّقُودِ، فَالْإِبِلُ مَا حُكْمُهَا؟ أَوْ عَرَفْنَا حُكْمَ النَّقْدَيْنِ فَمَا حُكْمُ الْإِبِلِ؟ فَالْفَاءُ مُتَّصِلٌ بِمَحْذُوفٍ (قَالَ: وَلَا صَاحِبُ إِبِلٍ) بِالرَّفْعِ أَيْ يُوجَدُ، وَيَكُونُ، قِيلَ: بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَيْسَ جَوَابًا لِلسُّؤَالِ لَفْظًا لِوُجُودِ الْوَاوِ بَلْ جَوَابٌ لَهُ مَعْنًى مِنْ بَابِ تَلْقِينِ الْعَطْفِ، لَكِنْ مَعْنًى لَا لَفْظًا (لَا يُؤَدِّي) صِفَةٌ أَيْ لَا يُعْطِي صَاحِبُ الْإِبِلِ (مِنْهَا حَقَّهَا) أَيِ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ فِيهَا (وَمِنْ حَقِّهَا) أَيِ الْمَنْدُوبِ وَ " مِنْ " تَبْعِيضِيَّةٌ (حَلْبُهَا) قَالَ النَّوَوِيُّ: بِفَتْحِ اللَّامِ هِيَ اللُّغَةُ الْمَشْهُورَةُ، وَحُكِيَ سُكُونُهَا وَهُوَ غَرِيبٌ ضَعِيفٌ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْقِيَاسُ (يَوْمَ وِرْدِهَا) قِيلَ: الْوِرْدُ الْإِتْيَانُ إِلَى الْمَاءِ، وَنَوْبَةُ الْإِتْيَانِ إِلَى الْمَاءِ فَإِنَّ الْإِبِلَ تَأْتِي الْمَاءَ فِي كُلِّ ثَلَاثَةٍ أَوْ أَرْبَعَةٍ، وَرُبَّمَا تَأْتِي فِي ثَمَانِيَةٍ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَمَعْنَى حَلْبُهَا يَوْمَ وِرْدِهَا أَنْ يُسْقَى أَلْبَانَهَا الْمَارَّةُ، وَهَذَا مِثْلُ نَهْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْجَذَاذِ بِاللَّيْلِ، أَرَادَ أَنْ يُصْرَمَ بِالنَّهَارِ لِيَحْضُرَهَا الْفُقَرَاءُ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَحَصَرَ يَوْمَ الْوِرْدِ لِاجْتِمَاعِهِمْ غَالِبًا عَلَى الْمِيَاهِ، وَهَذَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْبَابِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: وَمِنْ حَقِّهَا أَنْ يَحْلِبَهَا فِي يَوْمِ شُرْبِهَا الْمَاءَ دُونَ غَيْرِهِ، لِئَلَّا يَلْحَقَهَا مَشَقَّةُ الْعَطَشِ، وَمَشَقَّةُ الْحَلْبِ، وَاعْلَمْ أَنَّ ذِكْرَهُ وَقَعَ اسْتِطْرَادًا وَبَيَانًا لِمَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْتَنِيَ بِهِ مَنْ لَهُ مُرُوءَةٌ لَا لِكَوْنِ التَّعْذِيبِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَيْضًا لِمَا هُوَ مُقَرَّرٌ مِنْ أَنَّ الْعَذَابَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى تَرْكِ وَاجِبٍ أَوْ فِعْلِ مُحَرَّمٍ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُحْتَمَلَ عَلَى