الواجب ما يأثم بتركه، ولا مخلص عند هذا العبد إلا بإبداء عذر (أي معين لا احتمالاً) أو بإثبات المنسوخية، أو بالقول بأن الوجوب كوجوب الصلاة على من استأهل في الآخر، فتدبر، الثاني: أن بعض الصوم لما لم يكن صوماً لم يكن فيه إبطال العمل، فإنه ما عمل إلا بعد الصوم، وليس بعمل، فالإفطار لا يوجب إبطال العمل، فتأمل فيه – انتهى. وأجاب بعضهم عن الثاني بأن بعض الصوم وإن لم يكن عملاً بالفعل لكنه في معرض أن يصير عملاً، فتركه إبطال للعمل، وتعقب بأن إطلاق العمل على ما هو معرض أن يصير عملاً لا شك أنه مجاز، وعلى هذا فيلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز، وهو لا يجوز عند الحنفية، وأجيب عن الاحتجاج بإجماع الصحابة بأنه مجرد دعوى بلا سند، فلا يقبل، قال القاري: هو مردود؛ لأن ذكر السند ليس بشرط لصحة الإجماع، مع أن الآية سند معتمد لصحة الإجماع، قلت: لم يثبت نصاً عن أحد من الصحابة أنه ذهب إلى وجوب الإتمام بعد الشروع، فضلاً عن إجماعهم على ذلك فلا يلتفت إلى دعوى الإجماع مع وجود النصوص الصريحة على عدم الوجوب، وأما الاستناد بالآية فقد عرفت فساده، وأما الجواب عن القياس فهو أن الحج امتاز عن غيره بلزوم المضي في فاسده، فكيف في صحيحه، وكذلك امتاز بلزوم الكفارة في نفله كفرضه، ويرد على أصل مذهب الحنفية بأن النفل إذا كان واجباً بالشروع كما في كتب الأصول ففي التلويح (ج1: ص306 – طبعة مصر) : والنفل لا يضمن بالترك، وأما إذا شرع فيه، وأفسد فقد صار بالشروع واجباً فيقضي – انتهى. وفي كشف الأسرار (ج1: ص135) : وأما إذا شرع النفل ثم أفسده، فإنما يجب القضاء؛ لأنه بالشروع صار ملحقاً بالواجب، لا لأنه نفل كما قبل الشروع – انتهى. فيلزم حينئذٍ أن لا يكون النفل من حيث أنه نفل عبادة عملاً، وعلى هذا فالمسائل التي تتعلق بنفس النفل لا يكون لها مصداق في الواقع، مثل قولهم: صلاة المفترض خلف المتنفل لا تجوز، فتأمل. وقالت الشافعية: الدليل على كون الاستثناء في الحديث منقطعاً ما روى النسائي وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أحياناً ينوي صوم التطوع ثم يفطر، وفي البخاري أنه أمر جويرية بنت الحارث أن تفطر يوم الجمعة بعد أن شرعت، ولم يأمرها بالقضاء، وروى البيهقي عن أبي سعيد قال: صنعت للنبي - صلى الله عليه وسلم - طعاماً، فلما وضع قال رجل أنا صائم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((دعاك أخوك وتكلف لك، أفطر فصم مكانه إن شئت)) ، قال الحافظ في الفتح بعد ذكر هذا الحديث: إسناده حسن – انتهى. ففي هذه الأحاديث الثلاثة، وحديثي أم هانئ وعائشة المتقدمين دليل على أن الشروع في العبادة لا يستلزم الإتمام إذا كانت نافلة، بهذه النصوص في الصوم، وبالقياس في الباقي إلا الحج. وأجاب العيني عن ذلك بأن حديث النسائي لا يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - ترك القضاء، وإفطاره - صلى الله عليه وسلم - ربما كان لعذر مثل الجوع أو غيره، وحديث جويرية إنما أمرها بالإفطار عند تحقق واحد من الأعذار كالضيافة، أو لأنها صامت بغير إذنه واحتاج إليها، وليس فيه أنها تركت القضاء، وكل ما جاء من أحاديث الباب محمول على مثل هذا – انتهى. وقال الزرقاني: وإذا احتمل ذلك سقط به الاستدلال؛ لأن القصتين من وقائع الأحوال التي لا عموم لها، وقد قال تعالى: {لا تبطلوا أعمالكم} – انتهى. قلت: إبداء مثل هذه الاحتمالات من غير منشأ وقرينة تدل عليها مما لا يلتفت إليه، فإنه تحكم محض، يفعله صاحبه ترويجاً لدعواه وتمشية لمذهبه، ولو كان القضاء