قال الإمام ابن خلكان: قال لي شيخنا الحافظ العلامة زكي الدين أبو محمد عبد العظيم المنذري - رحمه الله تعالى - وقد جرى ذكر تاريخ ابن عساكر المذكور، وأخرج لي منه مجلداً، وطال الحديث في أمره واستعظامه: ما أظن هذا الرجل إلا عزم على وضع هذا التاريخ من يوم عقل على نفسه، وشرع في الجمع من ذلك الوقت، وإلا فالعمر يقصرعن أن يجمع الإنسان فيه مثل هذا الكتاب بعد الاشتغال والتنبيه. قال: ولقد قال الحق، ومن وقف عليه عرف حقيقة هذا القول، ومتى يتسع الإنسان الوقت حتى يضع مثله، وهذا الذي ظهر هو الذي اختاره، وما صح له إلا بعد مسودات ما يكاد ينضبط حصرها، وله تآليف حسنة غيره، وأخرى ممتعة، قال: وله شعر لا بأس به، فمن ذلك قوله على ما قيل:
ألا إن الحديث أجل علم ... وأشرفه الأحاديث العوالي
وأنفع كل علم منه عندي ... وأحسنه الفوائد في الأمالي
وإنك لن ترى للعلم شيئاً ... محققه كأفواه الرجال
فكن يا صاح ذا حرص عليه ... وخذه من الرجال بلا ملال
ولا تأخذه من صحف فترمى ... من التصحيف بالداء العضال
ومن المنسوب إليه أيضاً:
أيا نفس ويحك جاء المشيب ... فماذا التصابي وماذا العزل
تولى شبابي كأن لم يكن ... وجاء مشيبي كأن لم يزل
كأني بنفسي على غرة ... وخطب المنون بها قد نزل
فياليت شعري ممن أكوان ... وما قدر الله لي في الأزل
وقد التزم في هذه الأبيات ما لا يلزم، وهو اطراد الزاي قبل اللام، والبيت الثاني هو بيت علي بن جبلة حيث يقول:
شباب كأن لم يكن ... وشيب كأن لم يزل
وليس بينهما إلا تغييريسير كما تراه. وقال بعض أهل العلم بالحديث والتواريخ: ساد أهل زمانه في الحديث ورجاله، وبلغ فيه الذروة العليا، ومن تصفح تاريخه علم منزلة الرجل في الحفظ. قلت: بل من تأمل تصانيفه من حيث الجملة علم مكانه في الحفظ والضبط للعلم والاطلاع وجودة الفهم والبلاغة والتحقيق والاتساع في العلوم، وفضائل تحتها من المناقب والمحاسن كل طائل. ومن تآليفه الشهيرة المشتملة على الفضائل الكثيرة كتاب: تبيين كذب المفتري فيما ذسب إلى الشيخ الإمام أبي الحسن الأشعري. جمع فيه بين حسن العبارة والبلاغة والإيضاح والتحقيق