جونته، فطلب الشيخ منه أن يطلقه، فتعسر عليه ساعة، فأطلقه من جونته، فغاب ومكث خمسة عشر يوماً، فعاد إلى الشيخ وفيه آثار من نار، فسأله عن ذلك فقال: إنه لما عزم علي أردت أن أخرج، فكانت نار تلفحني من كل جهة، ولا أرى موضعاً خالياً من النار، فدخلتها كارهاً فهذه الآثار من تلك النار.
فيها كانت وقعة كبيرة بالعراق بين سيف الدولة صدقة بن منصور أمير العرب وبين السلطان محمد، فقتل صدقة في المصاف. وفيها كان الحصار على صور وطرابلس والشام في ضرمع الفرنج. وفيها توفي أبو علي تميم بن معز ابن السلطان أبي يحيى الحميري الصنهاجي، ملك إفريقية وما والاها بعد أبيه، وكان حسن السيرة، محمود الآثار، محباً للعلماء، معظماً للفضلاء مقصداً للشعراء، كامل الشجاعة وافر الهيبة، عاش تسعاً وتسعين سنة، وكانت دولته ستاً وخمسين سنة، وخلف من البنين أكثر من مائة، ومن البنات ستين - على ما ذكر ابن شداد في تاريخ القيروان - وتملك بعده ابنه يحيى، وفيه يقول أبو علي، الحسن بن رشيق القيرواني:
أصح وأقوى ما سمعناه في الندا ... من الخبر المأثور منذ قديم
أحاديث ترويها السيول عن الحيا ... عن البحر عن كف الأمير تميم
ولتميم المذكور أشعار حسنة منها قوله:
سل المطر العام لذي عم أرضكم ... أجاء بمقدار الذيى فاض من دمعي؟
إذا كنت مطبوعاً على الصد والجفا ... فمن أين لي صبر، فأجعله طبعي؟
وكان يجيز الجوائز السنية، ويعطي العطايا الجزيلة الهنيئة، وفي أيام ولايته أخذ المهدي محمد بن تومرت إفريقية عند عوده من بلاد الشرق، وأظهر بها الإنكار على من رآه خارجاً عن سنن الشريعة، ومن هناك توجه إلى مراكش، وكان منه ما كان، على ما سيأتي قريباً، وكان قد فوض إلى تميم المذكور أبوه في حياته ولاية المهدية، ولم يزل بها إلى أن توفي والده، فاستبد بالملك، ولم يزل كذلك إلى أن توفي. وفيها توفي صدقة بن منصور مقتولاً كما تقدم، وذلك يوم الجمعة، سلخ جمادى