وكاد أن يستولي الخراب إلى بغداد، لضعف الهيبة وتتابع السنين، فاجتمع الهاشميون في جامع المنصور، ورفعوا المصاحف، واستنفروا الناس، فاجتمع إليهم الفقهاء وخلق من الإمامية والرافضة، وضجوا بأن يعفوا من الترك، فعمد الترك نعود بالله من الضلال فرفعوا صليباً على رمح، وترامى الفريقان بالنشاب والآجر، وقتل طائفة، ثم تهاجروا، وكثرت العملات والكبسات، وأخذت المخازن الكبار والدور، وتجدد دخول الأكراد اللصوص إلى بغداد، فأخذوا خيول الأتراك من الاصطبلات. وفيها توفي السلطان محمود ابن الأمير ناصر الدولة أبو منصور. كان أبوه أمير الغزاة الذين يغزون من بلاد ما وراء النهر على أطراف الهند، وأخذ عدة قلاع، وافتتح ناحية بست. وأما محمود فافتتح غزنة ثم بلاد ما وراء النهر، ثم استولى على سائر خراسان، ودان له الخلق على اختلاف أجناسهم، وفرض على نفسه غزو الهند كل عام، فافتتح منه بلاداً واسعة، وقد مضى ذكر شيء من فتح البلاد البعيدة، وصفاته الجميلة الحميدة، وعلو همته الشريفة، ورجوعه عن مذهب أبي حنيفة إلى مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنهما، في القضية المتقدمة في السنة العاشرة بعد الأربعمائة.
وفيها توفي الإمام أحمد بن محمد المعروف بابن دراج الأندلسي الشاعر. قال الثعالبي: كان يصقع الأندلس كالمتنبي يصقع الشام. ومن أشعاره ما عارض بها قصيدة أبي نواس التي مدح بها الخصيب صاحب ديوان خراج مصر ومنها قوله:
تقول التي من بيتها خف محمل ... عزيزعلينا أن نراك تسير
أما دون مصر للغني مطلب ... بلى إن أسباب الغنى لكثير
فقلت لها واستعجلتها بوادر ... جرت فجرى من حرهن عبير
درين أكثر حاسديك برحلة ... إلى بلدة فيها الخصيب أمير
فما حازه جود ولا حل دونه ... ولكن يصير الجود حيث يصير
فتى يشتري حسن الثناء بماله ... ويعلم أن الدائرات تدور
فمن كان أمسى جاهلاً بمقالتي ... فإن أمير المؤمنين خبير
ثم قال في أواخرها بعد ذكر المنازل:
زها بالخصيب السيف والرمح في الوغى ... وفي السلم يزهو منبر وسرير
جواد إذا الأيدي قبضن عن الندى ... ومن دون عورات النساء غيور
فإني جدير إن بلغتك للغنى ... وأنت لما أملت منك جدير
فإن تولني منك الجميل فأهله ... وإلا فإني عاذر وشكور