فتعلمه، وأتقنه غاية الاتقان، ثم اشتغل بعلوم الحكمة، ولما دخل بغداد كان فيها أبو بشر قسطا بن يونس الحكيم المشهور، وهو شيخ كبير يعلم الناس فن المنطق، وله إذ ذاك صيت عظيم، وشهرة وافية، ويجتمع في حلقته كل يوم خلق كثير وهو يقرأ كتاب أرسطاطاليس ليس في المنطق، ويملي على تلامذته شرحه، فكتب عنه وفي شرحه سبعون سفراً، ولم يكن في ذلك الوقت أحد مثله في فنه.
وكان في تآليفه حسن العبارة، لطيف الإشارة. وكان يستعمل في تصانيفه البسط والتذييل، حتى قال بعض علماء هذا الفن: ما أرى أبا نصر الفارابي أخذ طريق تفهيم المعاني الجزلة بالألفاظ السهلة إلا من أبي بشر، يعني: شيخه المذكور. وكان أبو نصر يحضر مجلسه من جملة تلامذته، فأقام بذلك برهة ثم ارتحل إلى مدينة حران.
وفيها توفي ابن خيلان بالخاء المعجمة والياء المثناة من تحت الحكيم النصراني، فأخذ عنه طرفاً من المنطق أيضاً، ثم قفل راجعاً إلى بغداد، وقرأ بها علوم الفلسفة، وتناول جميع كتب أرسطاطاليس، وتمهر في استخراج معانيها والوقوف على أغراضه فيها، ويقال أنه وجد. كتاب النفس لأرسطاطاليس عليه مكتوب بخط أبي نصر الفارابي: قرأت هذا الكتاب مائتي مرة.
ونقل عنه أنه كان يقول: قرأت السماع الطبيعي لأرسطاطاليس أربعين مرة، وأرى أني محتاج إلى معاودة قراءته، وروي عنه أنه سئل: من أعلم بهذا الشأن: أنت أم أرسطاطاليس؟ فقال: لو أدركته لكنت أكبر تلامذته، ذكره أبو العباس ابن خلكان حاكياً له عن أبي القاسم بن صاعد القرطبي في كتاب طبقات الحكماء.
وحكي عنه أنه قال: إني في التحقيق على جميع علماء الفلاسفة الإسلاميين، وشرح غامضها، وكشف سرها، وقرب تناولها، وجمع ما تحتاج إليه منها على ما أغفله الكندي وغيره من صناعة التعاليم، وأوضح الغفل فيها من عواد المنطق الخمسة، وعرف طريق استعمالها، وكيف يصرف صورة القياس في كل مادة، وجاءت كتبه في الغاية الكاملة والنهاية الفاضلة.
قلت: قوله الغقل هو بضم الغين المعجمة وسكون الفاء، يقال أرض غقل، لا علم بها ولا أثر عمارة، ودابة غفل: لا سمة عليها، ورجل غقل: لم يجرب الأمور، ذكره الجوهري، ثم له بعد ذلك كتاب شريف، لم يسبق إليه في إحضإر العلوم والتعريف