والفلاسفة لدقة كلامه، والشعراء لفصاحته، والمتكلمون لمعانيه وكلامه، ناء عن فهمهم وكان رضي الله تعالى عنه من صغره منطقاً بالمعارف والحكم، حتى أن خاله السري سئل عن الشكر والجنيد يلعب مع الصفار فقال له: ما تقول يا غلام. فقال: الشكر أن لا تستعين بنعمة على معاصيه، فقال السري: ما أخوفني عليك أن يكون حظك في لسانك. قال الجنيد: فلم أزل خائفاً من قوله هذا حتى دخلت عليه يوماً، وجئته بشيء كان محتاجاً إليه فقال لي: أبشر فإني دعوت الله عز وجل أن يسوق لي ذلك على يد مفلح، أو قال: موفق، اللهم إنا نسألك التوفيق، ونعوذ بك من الخذلان والتعويق، بجاه نبيك الكريم، عليه أفضل الصلاة والتسليم.
وعن الأستاذ أبي القاسم المذكور أنه قال: دخلت الكوفة في بعض أسفاري، فرأيت داراً لبعض الرؤساء، وقد سف عليها النعيم، وعلى بابها عبيد وغلمان، وفي بعض رواشتها جارية تغني وتقول:
ألا يا دار لا يدخلك حزن ... ولا يعبث بساكنك الزمان
فنعم الدار أنت لكل ضيف ... إذا ما الضيف أعوزه المكان
قال: ثم مررت بعد مدة، فإذا الباب مسود، والجمع مبدد، وقد ظهر عليها كآبة الذل والهوان، وأنشد لسان الحال:
ذهبت محاسنها وبان شجونها ... والدهر لا يبقي مكاناً سالماً
فاستبدلت من أنسها بتوحش ... ومن السرور بها عزاء وغما
قال: فسألت عن خبرها، فقيل لي: مات صاحبها، فآل أمرها إلى ما ترى. فقرعت الباب الذي كان لا يقرع، فكلمتني جارية بكلام ضعيف، فقال لها: يا جارية، أين بهجة هذا المكان؟. وأين أنواره؟ وأين شموسه؟ وأين أقماره؟. وأين قصاده؟. وأين زواره؟ فبكت، ثم قالت: يا شيخ، كانوا فيه على سبيل العلوية، ثم نقلتهم الأقدار إلى دار القرار، وهذه عادة الدنيا، ترحل من سكن فيها، وتسيء إلى من أحسن إليها. فقلت لها: يا جارية، مررت بها في بعض الأعوام، وفي هذا الروشن جارية تغني: " ألا يا دار لا يدخلك حزن "، فبكت وقالت: أنا والله تلك الجارية، لم يبق من أهل هذه الدار أحد غيري، فالويل لمن غرته دنياه. فقلت لها: فكيف قربك القرار في هذا الموضع الخراب؟ فقالت لي: ما أعظم جفاءك، أما كان هذا منزل الأحباب؟ ثم أنشأت:
قالوا اتغتي وقوفاً في منازلهم ... وليس مثلك لا يغني بحملها
فقلت والقلب قد ضجت أضالعه ... والروح تنزع والأشواق تبدلها