فلما عادت الدنانير إليه حل الصرة وضم إليها خمسين ديناراً أخرى، وحلف إنه يردها عليه، وسيرها إليه، فلما وصلت إلى البحتري أنشأ يقول:
شكرتك إن الشكر للسيد نعمة ... ومن يشكر المعروف بالله زائده
لكل زمان واحد يقتدى به ... وهذا زمان أنت لا شك واحده
قلت: وحكي أن هذين البيتين كتبهما الشيخ الإمام محيي الدين النووي، وأرسل بهما إلى الشيخ الإمام تقي الدين ابن دقيق العيد، رضي الله تعالى عنهما، لما بلغه أنه قيل دقيق " العيد "، لم لا تصنف في الفقه؟ فقال: قد صنف الشيخ محيي الدين النووي ما فيه كفاية، أو كما قال: ومثل هذا ما حكي أيضاً أن الإمام حجة الإسلام أبا حامد الغزالي قيل له: لم لا تصنف في التفسير؟. فقال: يكفي ما صنف فيه شيخنا الإمام أبو الحسن الواحدي رحمة الله عليهما. وكان البحتري قد اجتاز بالموصل وقيل برأس عين، فمرض مرضاً شديداً. وكان الطبيب يختلف إليه ويداويه، فوصف له يوماً مزورة، ولم يكن عنده من يخدمه سوى غلامه، فقال الغلام: أصنع هذه المزورة؟. وكان بعض رؤساء البلد حاضراً عنده، وقد جاء يعوده فقال ذلك الرئيس: هذا الغلام ما يحسن يطبخها، وعندي طباخ من نعته وصفته كيت وكنت، وبالغ في حسن صفته، فترك الغلام عملها اعتماداً على قوله، البحتري ينتظر، واشتغل الرئيس عنها ونسي أمرها. فلما أبطأت عليه وفات وقتها وصولها إليه، كتب إلى الرئيس:
وجدت وعدك زوراً في مزورة ... حلفت مجتهداً إحكام طاهيها
فلا شفى الله من يرجو الشفاء ... ولا علت كفه ملق كفه فيها
فاحبس رسولك عني أن يجيء بها ... فقد حبست رسولي عن تقاضيها
قوله: طاهيها أي طابخها، فالطهي: الطبخ صرح به في ديوان الأدب. وأخباره ومحاسنه كثيرة، ولم يزل شعره غير مرتب حتى جمعه أبو بكر الصولي، ورتبه على الحروف. وجمعه أيضاً علي بن حمزة الأصبهاني، ولم يرتبه على الحروف، بل على الأنواع كما صنع بشعر أبي تمام.
وللبحتري أيضاً كتاب حماسة على مثال حماسة أبي تمام، وله " كتاب معاني الشعر " وكانت ولادته سنة ست وقيل خمس ومائتين. قال ابن الجوزي، وتوفي وهو ابن ثمانين سنة. وقال الذهبي: ابن بضع وسبعين سنة، وقيل توفي في السنة التي قبل هذه، وقيل في التي بعدها، وقيل في سنة ست وثمانين. وقال الخطيب: كان يكنى أبا الحسن وأبا عبادة