ودخل عليه يوماً أبو قابوس الحميري فأنشده:
رأيت يحيى، اتم الله نعمته ... عليه يأتي الذي لم يأته أحد
ينسى الذي كان من معروفه ... أبداً إلى الرجال ولا ينسى الذي بعدا
ولمسلم بن الوليد الأنصاري:
أجدك هل تدرين أن رب ليلة ... كأن دجاها من قرونك ينشر
صبرت لها حتى تجلت بغرة ... كغرة يحيى حين يذكر جعفر
فقضى حوائجه ووصله بجملة من المال. قلت رفي جوده وجود عقبة ينشد هذان البيتان.
سألت الندى والجود حران أنتما ... فقالا كلانا عبد يحيى بن خالد
فقلت شرى ذلك الملك قال لا ... ولكن ورثنا والداً بعد والد
قلت هكذا قسم الكرم إلى الندى والجود والمعروف إنهما شيء واحد قال في الصحاح: والندى الجود وكان يحيى يقول إذا أقبلت الدنيا فأنفق فإنها لا تفنى، وإذا أدبرت فأنفق فإنها لا تبقى، وفي هذا المعنى يقول الشاعر:
ولا الجود يفني المال والجد مقبل ... ولا البخل يبقي المال والعبد مدبر
ونادى إسحاق بن إبراهيم الموصلي أحد غلمانه فلم يجبه، فقال: سمعت يحيى بن خالد يقول: يدل على حلم الرجل سوء أدب كلمانه، وكان يحيى يساير الرشيد يوماً، فوقف له رجل، فقال: يا أمير المؤمنين، عطبت دابتي، فقال الرشيد: يعطي خمس مائة درهم، فغمزه يحيى، فلما نزلوا قال له الرشيد: يا أبة أومأت إلي بشيء فلم أعرفه، فقال: مثلك لا يجري هذا القدر على لسانه إنما يذكر مثلك خمسة آلاف عشرة آلاف، فقال: فإذا سأل مثل هذا كيف أقول؟ قال: تقول تشترى له دابة وأخبارهم كثيرة ومكارمهم شهيرة، فلنقتصر على هذا المقدار رغبة في الاختصار. ولم يزل يحيى في الحبس إلى أن مات كما تقدم، ودفن في شاطىء الفرات، فوجدت في جنبه رقعة فيها مكتوب بخطه: قد تقدم الخصم والمدعى عليه في الأثر والقاضي هو الحكم العدل الذي لا يجوز فلا يحتاج إلى بينة، وحملت الرقعة إلى الرشيد فلم يزل يبكي يومه كله، وبقي أياماً يتبين الأسى في وجهه.