وتحصن بواسط فحاصره أبو جعفر المنصور أخو السفاح مدة ثم أمنه وغدر به، وقال لا يغير ملك وهذا فيه، فقتله، وهو معدود من جملة من جمع له العراقان، فكان أولهم زياد ابن أبيه، استخلفه معاوية، وآخرهم يزيد المذكور، ولم يجمعا لأحد بعده. وقيل بل أن أبا مسلم الخراساني وصل إلى السفاح، يحضه على قتله، ويقول: طريق السهل لا يصلح أن يكون فيها حجر، وكان يركب في موكب كبير وعسكر كثر إذا جاء إلى أبي جعفر المنصور، فمنع من ذلك، فصار يأتي في نفر يسير، ثم صار يأتي في ثلاثة، ولما قتل رثاه أبو عطاء السندي بقوله:
ألا إن عينا لم تجد يوم واسط ... عليك يجاري دمعها بجمود
عشية قام النائحات وشققت ... جيوبها بأيدي مأتم وخدود
وكان قد قاتل دونه ولده داود، فقتل مع جماعة من أصحابه، ثم قتل هو ساجد لله تعالى. وذكر بعض المؤرخين أنه لما طال حصار ابن هبيرة ثبت معن بن زايدة معه، وكان أبو جعفر المنصور يقول: ابن هبيرة يخندق على نفسه مثل النساء، وبلغ ابن هبيرة ذلك، فأرسل أليه المنصور: انت القائل كذا؟ ابرز إلي لترى فأرسل إليه ما أجد لي ولك مثلاً إلا كالأسد لقي خنزيراً فقال له الخنزير بارزني: فقال الأسد ما أنت بكفؤ لي، فإن بارزتك فنالذي منك سوء كان عاراً علي، وإن قتلتك قتلت خنزيراً فلم أحصل على حمد ولا في قتلك فخر، فقال الخنزير: لئن لم تبارزني لأعرفن السباع أنك جبنت عني، فقال الأسد: احتمالي لذلك أيسر من تلطيخ براثني بدمك. ثم إن المنصور كاتب القواد، وفهم ابن هبيرة، فطلب الصلح، فأجابه. وقال له ابن هبيرة يوماً إن دولتكم بكر فأذيقوا الناس حلاوتها وجنبوهم مرارتها تصل محبتكم إلى قلوبهم، ويعذب ذكركم على ألسنتهم، وما زلنا منتظرين لدعوتكم. وكان بينهما ستر فرفعه المنصور وقال في نفسه: عجباً لمن يأمرني بقتل هذا، فصار ابن هبيرة يتردد إليه ويتغذى ويتعشى عنده، وبالغ السفاح في حث أبي جعفر في قتله وعنف عليه إن لم يفعل، وهو يمتنع من ذلك، فلم يزل به إلى أن أمر بقتله كما تقدم بإشارة أبي مسلم الخراساني صاحب الدعوة العباسية. قال ابن عساكر: كان ابن هبيرة إذا أصبح أتي بقدح كبير من لبن قد حلب على عسل أحياناً بسكر، فيشربه بعد طلوع الشمس، ويدعوا بالغداء فيأكل دجاجتين وفرخي حمام ونصف جدي وألواناً من اللحم، ثم يخرج فينظر في أمور الناس إلى نصف النهار، ثم يدخل