عليك. وقال للجماعة كلهم: قوموا عنا، نحن مماليك نور اللين وعبيده، يفعل بنا ما يريد. فتفرقوا على هذا، وكتب أكثرهم إلى نور الدين بالخبر. فلما خلا أيوب بابنه صلاح الدين قال له: أنت جاهل قليل المعرفة، تجمع هذا الجمع الكثير وتطلعهم على ما في نفسك؟! وإذا سمع نور الدين أنك عازم على منعه البلاد جعلك أهم الأمور إليه، وأولاها بالقصد، ولو قصدك لم ير معك أحداً من هذا العسكر. وكانوا أسلموك إليه. وأما الآن بعد هذا المجلس فيكتبون إليه ويعرفونه قولي فاكتب أنت إليه وارسل إليه في المعنى، وقل: أي حاجة لك في قصدي أرسل إلي بأحد يأخذني بحبل يضعه في عنقي، فهو إذا سمع هذا عدل عن قصدك واشتغل بغيرنا، والأقدار تفعل عملها. والله لو أراد نور الدين قصبة من قصبة سكر مصر لقاتلته أنا عليها حتى أمنعه أو أقتل. ففعل صلاح الدين ما أشار به، فترك نور الدين قصده، واشتغل بغيره، وكان الأمر كما ظنه نجم الدين أيوب. وكان هذا من أحسن الآراء وأجودها. ثم توفي نور الدين في سنة تسع وستين وخمس مائة كما تقدم في ترجمته، وبلغ صلاح الدين أن إنساناً يقال له الكنز، جمع بأسوان خلقاً عظيماً من السودان، وزعم أنه يعيد الدولة المصرية، وانضاف إليه المصريون، فجهز صلاح الدين إليه جيشاً كثيفاً وجعل مقدمه أخاه الملك العادل، فساروا والتقوهم وكسروهم، وذلك في سنة سبعين وخمس مائة. واستقر لصلاح الدين قواعد الملك، وكان نور الدين قد خلف ولده الملك الصالح، اسماعيل في دمشق، وكان شمس الدين بن الداية بقلعة حلب قد حدثته نفسه بأمور، فسار الملك الصالح من دمشق إلى حلب فوصل إلى ظاهرها ومعه سابق الدين، فخرج بدر الدين حسن بن الداية فقبض على سابق الدين، ولما دخل الملك الصالح القلعة قبض على شمس الدين بن الداية وأخيه حسن، وأودع الثلاثة السجن. وفي ذلك اليوم قتل أبو الفضل ابن الخشاب لفتنة جرت بحلب، وقيل بل قتل قبل أولاد الداية. ثم إن صلاح الدين بعد وفاة نور الدين علم أن الملك الصالح ولد نور الدين صبي لا يستقل بالأمر ولا ينهض باعباء الملك، فتجهز من مصر في جيش
كثيف، وترك بها من يحفظها، وقصد دمشق مظهراً أنه يتولى مصالح الملك الصالح، فدخلها بالتسليم في سنة سبعين وخمس مائة، وتسلم قلعتها، واجتمع الناس إليه وفرحوا به، وأنفق أموالاً عظيمة وأظهر السرور بالدمشقيين، وسار إلى حلب، فنازل حمص وأخذ مدينتها ولم يشتغل بقلعتها، وتوجه إلى حلب ونازلها. ثم إن سيف الدين غازي - صاحب الموصل - لما أحس بما جرى علم أن الرجل قد استفحل أمره وعظم شأنه، وخاف إن غفل عنه استحوذ على البلاد وتعدى الأمر إليه، فأنفذ عسكراً وافراً وجيشاً عظيماً، وقدم عليه أخاه عز الدين مسعود، وساروا يريدون لقاء صلاح الدين. فلما بلغه ذلك رحل عن حلب عائداً إلى حماة، ورجع إلى حمص فأخذ قلعتها، ووصل عز الدين إلى حلب وأخذ معه عسكر ابن عمه الملك الصالح، وخرجوا في جمع عظيم. ولما عرف صلاح الدين بمسيرهم سار حتى وافاهم على قرون حماة وراسلهم، واجتهد أن يصالحوه فما صالحوه، ورأوا أن صرف المصاف معه ربما نالوا به غرضهم، والقضاء يجر إلى أمور، هم بها لا يشعرون. فتلاقوا، فقضى الله تعالى أنهم انكسروا، فهزموا بين يديه، وأسر جماعة منهم، ثم سار ونزل على حلب، فصالحوه على أخذ المعرة وكفرطاب وماردين. ولما جرت هذه الواقعة كان سيف الدين غازي محاصراً أخاه عماد الدين - صاحب سنجار - لأنه كان قد انتمى إلى صلاح الدين، ثم جمع العساكر وسار، وخرج ابن عمه الملك الصالح إلى لقائه، فوصل إلى حلب وصعد قلعتها. وأرسل صلاح الدين إلى مصر يطلب عسكرها، فوصل إليه وسار به حتى نزل على قرون حماة، ثم تصافوا وجرى بينهم قتال عظيم، فانكسرت ميسرة صلاح الدين، فحمل صلاح الدين بسيفه فانكسر القوم، وأسر منهم جمعاً من كبار الأمراء، فمر عليهم وأطلقهم، وعاد سيف الدين إلى حلب، فأخذ منها خزائنه، وسار حتى عاد إلى بلاده. ومنع صلاح الدين أصحابه من تتبع القوم، ونزل على خيامهم وقسم الخزائن، وأعطى خيمة سيف الدين لابن أخيه عز الدين، وسار إلى منبج فتسلمها، ثم إلى قلعة عزاز فحاصرها، ووثب جماعة من الإسماعيلية على صلاح الدين فنجاه الله تعالى منهم وظفر بهم، ثم سار فنزل على حلب وأقام عليها مدة، ثم رحل عنها. وكانوا قد أخرجوا له ابنة صغيرة لنور الدين فسألته عزاز، فوهبها لها. ثم عاد صلاح الدين إلى مصر ليتفقد أحوالها، ثم تأهب للغزاة، وخرج يطلب الساحلثيف، وترك بها من يحفظها، وقصد دمشق مظهراً أنه يتولى مصالح الملك الصالح، فدخلها بالتسليم في سنة سبعين وخمس مائة، وتسلم قلعتها، واجتمع الناس إليه وفرحوا به، وأنفق أموالاً عظيمة