فلم أر فيها أحداً، وإذا هي كثيرة الخيرات. رأيت فيها مسجداً فدخلته فإذا فيه أربعة نفر، فسلمت عليهم فردوا علي السلام، وسألوني عن قصتي فأخبرتهم، وجلست عندهم بقية يومي ذلك، فرأيت من توجههم وحسن إقبالهم على الله تعالى أمراً عظيماً. فلما كان وقت العشاء دخل الشيخ حيوة الحراني فقاموا يبادرون إلى السلام عليه، فتقدم وصلى بهم العشاء، ثم استرسلوا في الصلاة إلى طلوع الفجر، فسمعت الشيخ حيوة يناجي ويقول: إلهي؛ لا أجد لي في سواك مطمعاً، ولا إلى غيرك منتجعاً، قد أنخت ببابك ناظراً إلى حجابك، متى تكشف لي عن تفريج الكربة، والترقي إلى مجلس القرية، وقد أوثقت نفسي عن السرور بك فوسمتها بذكرك، ولي فيها كوامن أفراح ترتاح إليها صبابات أشواقي، ولي معك أحوال سيكشفها اللقاء يا حبيب التائبين، ويا سرور العارفين، ويا قرة عين العابدين، ويا أنس المنفردين، ويا حرز اللاجين ويا ظهر المنقطعين، ويا من حنت إليه قلوب الصديقين، ويا من أنست به أفئدة المحبين، وعليه عكفت همة الخاشعين. ثم بكى بكاء شديداً، ورأيت الأنوار قد حفت بهم وأضاء ذلك المكان كإضاءة القمر ليلة البدر، ثم خرج الشيخ حيوة من المسجد وهو يقول:
سير المحب إلى المحبوب إعجال ... والقلب فيه من الأحوال بلبال
أطوي المهامة من قفر على قدم ... إليك يدفعني سهل وأجبال
فقال ولي أولئك النفر: اتبع الشيخ، فتبعته، وكانت الأرض برها وبحرها وسهلها وجبلها يطوي تحت أقدامنا طياً. كنت أسمعه كلما خطا خطوة يقول: يا رب حيوة كن لحيوة، وإذا نحن بحران في أسرع وقت، فوافينا الناس يصلون بها صلاة الصبح. سكن حران واستوطنها إلى أن توفي بها رحمه الله تعالى. وفيها توفي الفقيه الفاضل محمد بن زكريا المدرس في الشويرا: بضم الشين المعجمة وفتح الواو وسكون المثناة من تحت وفتح الراء من بلاد اليمن. توفي وله ولد خلفه يفضل عليه في العلم، خلفه في التدريس اسمه ابراهيم، تفقه بأبيه المذكور، وكان يختم في رمضان في كل يوم وليلة. وفيها توفي المهذب بن الدهان عبد الله بن أسعد بن علي الموصلي الفقيه الشافعي الأديب الشاعر النحوي ذو الفنون. توفي بحمص وكان مدرسايها. وفيها توفي الحافظ عبد الحق بن عبد الرحمن الأزدي الإشبيلي المعروف بابن الخراط، أحد الاعلام، مؤلف الأحكام الكبرى، والصغرى، والجمع بين الصحيحين،