في جوان 1936، وقبل أسبوعين أو ثلاثة من الامتحان الأخير الذي كان علي أن أتقدم له لنيل شهادة مهندس من المدرسة الخاصة للميكانيكا والكهرباء، استيقظت صباحا والدموع في مقلتي. كنت أعيش مثل هذه الحالة أحيانا عند الاستيقاظ من النوم منذ رحيل والدتي التي رأيتها ربما في المنام مرة أخرى. غير أن تباشير الصباح التي انسابت من الكوة الصغيرة لباب حجرتنا الصغيرة في الطابق السادس، أعادت وعيي إلى الحقيقة، فاستبشرت بالأفق الساحر الذي يتراءى أمام عيني: سوف أصبح مهندسا وكنت أعي أني من أفضل الأقلام الجزائرية. كنت أعلم وكنت أرى ماذا يمكن أن يجني المرء بمثل هذه الرتبة وبقلم مثيل. وكان طيف والدتي يمر أمام عيني في خضم هذا المستقبل الواعد. لم أعلم وقتها ما هو النقيض الذي انبثق من أعماق وعيي، وبالتحديد من أكثر جوانبه غورا وعمقا، أقصد شعوري الباطني. أدركت فقط أن هذا النقيض انتزع مني شهيقا وأتذكر الدعاء الذي تمتمته بين الدموع:

- إلهي، إني لا أريد نصيبي في هذه الدنيا، بل أريده في الآخرة. ثم انصرف فكري إلى المهام اليومية لطالب جدي ونجيب ينتظره امتحان مصيري. غير أن تذكر ما حصل هذا الصباح بقي في ذاكرتي كمعلم غرزه القدر في وجودي ليأذن لمرحلة جديدة.

فكم من مرة فكرت في هذه المسألة من يومها؟ وكم من مرة سأفكر فيها؟ لقد مرت عليها ست عشرة سنة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015