وغيرهما، وكأنما شيطان المعرفة بدأ يوسوس إلى المثقفين الجزائرين، ويستدرجهم إلى آفاق جديدة بحثاً عن العلم أو عن مركز مرموق، فوصل بدوره (كسوس) وأراد أن يكون لهذه المناسبة صدى يذكر، لأن الرجل كان على ما أعتقد يتطلع إلى منصب سياسي، فألقى بنادي الطلبة المغاربة محاضرة، لم يختر مكان إلقائها عن مبدإ وإنما لمجرد الشهرة، إذ أنه كان فيما عدا ذلك على مذهب الطلبة المنشقين، ومع ذلك فقد كان لمحاضرته فضل كبير في تصفية الجو بين الطلاب الجزائريين؛ لم يبق في تلك الليلة واحد منهم بقناعِهِ وعرف القوم كل فريق بسيماهم: فريق (الواقعيين) مثل (عمار نارون) الذي كان على رأس المنشقين، وفريق (المثاليين)، مثل (بن الساعي) ومثلي.
ويجب هنا أن نحدد مصطلحنا: فـ (الواقعي) هو الطالب المستعد لكل التواطؤات مع الإدارة الاستعمارية و (المثالي) هو المستعد لرفض كل تواطؤ.
لقد كانت المحاضرة فرصة لاحظت خلالها مع (بن الساعي) كيف كان المحاضر وفريقه يتبادلون النظرات وإشارات التلميح فوق رؤوس الملأ، وإشارات وتلميحات أسهم فيها بعض الطلبة التونسيين.
وتبودلت أيضاً في فريقنا نظرات وإيماءات منها تلميح للمحاضر ورفقائه، وساد القاعة جو أوحى لي أن أتقدم بعد نظرة تبادلتها مع (حموده بن الساعي)، بإعلان عنوان محاضرة ألقيها المرة المقبلة، كأن الموقف كان يفرض رد الفعل، فاخترت (لماذا نحن مسلمون) بعنوان أتذكر أن اختياره ترك في القاعة أثراً حسناً.
...
كانت المحاضرة في أواخر كانون الأول (ديسمبر) عام 1931، فتناولت فيها