العقلانية -بمعنى التفسير العقلاني لكل شيء في الوجود، أو تمرير كل شيء في الوجود من قناة العقل لإثباته أو نفيه أو تحديد خصائصه- مذهب قديم في البشرية، يبرز أشد ما يبرز في الفلسفة الإغريقية القديمة، ويمثله أشد ما يمثله سقراط وأرسطو.
ولقد ظلت الاتجاهات الفلسفية الإغريقية -التي تمثل العقلانية قسما بارزا منها- تسيطر على الفكر الأوروبي، حتى جاءت المسيحية الكنسية فغيرت مجرى ذلك الفكر في انعطافة حادة تكاد تكون مضادة لمجراه الأول الذي استغرق من تاريخ الفكر الأوروبي عدة قرون. فلم يعد العقل هو المرجع في قضايا الوجود إنما صار هو الوحي -كما تقدمه الكنيسة- وانحصرت مهمة العقل في خدمة ذلك الوحي في صورته الكنسية تلك ومحاولة تقديمه في ثوب "معقول"!
يقول الدكتور محمد البهي في كتابه "الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي": "كان الدين أو النص طوال القرون الوسطى سائدا في توجيه الإنسان في سلوكه وتنظيم جماعته، وفي فهمه للطبيعة، وكان يقصد بالدين "المسيحية" وكان يراد من المسيحية، "الكثلكة" وكانت الكثلكة تعبر عن "البابوية" والبابوية نظام كنسي ركز "السلطة العليا" باسم الله في يد البابا، وقصر حق تفسير "الكتاب المقدس" على البابا وأعضاء مجلسه من الطبقة الروحية الكبرى، وسوى في الاعتبار بين نص الكتاب المقدس وأفهام الكنيسة الكاثوليكية"1.
وقد نشأت عن ذلك في الحياة الأوروبية والفكر الأوروبي مجموعة من الاختلالات عرضنا لبعضها في الفصول السابقة, وقد نعرض لها أو لغيرها مرة أخرى في هذا الفصل، ولكنا نبادر هنا فنقول إن هذه الاختلالات لم تنشأ -كما تصور الفكر الأوروبي في مبدأ عصر النهضة- من إهمال الفلسفة والعلوم