إليها، بينما معظم الأفراد من هذه الغوغاء لو طلب منهم أن يقوموا بها أفرادا لامتنعوا واستنكروا.
وكثير من المفكرين لفتتهم هذه الظاهرة، وردوها إلى "المشاركة الوجدانية" أو إلى نزعة "مكبوتة" إلى التخريب والتحطيم ينفلت قيادتها حين يوجه الغوغاء إلى ذلك فينطلقون -وقد انحلت العقدة- يفعلون ما يخطر على بالهم من وحى اللحظة، متشجعين على الشر بكونهم كثرة غالبة والواقف في طريقهم قلة مغلوبة.. بل ردها بعضهم إلى "نزعة القطيع" مباشرة، على أساس أن هذا القطيع البشري في حالته الجنونية التي يكون عليها، بلا عقل ولا وعي، هو أشبه بالحيوان تحركه بالفعل نوازع الحيوان ما دام قد غاب عنه العقل الذي "يعقل" تصرفاته "أي: يقيدها".
وأيا كان الرأي فقد نظر المفكرون إلى هذه المظاهر على أنها حالة خاصة تصيب الجماهير حين تجتمع في حالة غضب أو استثارة. ولكن دوركايم جعلها قاعدة الحياة البشرية كلها، والأساس الذي تنبني عليه كل تصرفاتها، مستندا إلى الحالتين اللتين يكون الوعي والإرادة فيهما مفقودين تماما أو شبه مفقودين، وهما حالة الطفل وحالة الغوغاء. فأما الغوغاء فأمرها معروف، وأما الطفل فإنه يولد ولا حول ولا قوة، فيتلقى الأوامر والتوجيهات من أبويه ومن المجتمع المحيط به، فيتشكل من صغره بالطابع الذي عليه المجتمع، فتصاغ له أفكاره ومعتقداته وأنماط سلوكه دون أن تكون له إرادة في ذلك ولا رغبة ذاتية، ولا مشاركة إيجابية في صياغة تلك الأفكار والمعتقدات وأنماط السلوك.. وهكذا تخرج البشرية جيلا وراء جيل.
ولكنه يلحظ -بل يؤكد لغاية معينة في نفسه- أن الأفكار والمعتقدات وأنماط السلوك تتغير من جيل إلى جيل.. وهنا يقتنص الخيط الذي يريده فيقول إن هذا يحدث من تأثير العقل الجمعي، الذي يتغير على الدوام ولا يثبت على حال!
ويعرف العقل الجمعي بأنه شيء كائن خارج عقول الأفراد ليس هو مجموع عقولهم، ولا يشترط أن يكون موافقا لعقل أحد منهم ولا لمزاجه الخاص "عقل من هو إذن؟! " وأنه يؤثر في عقول جميع الأفراد من خارج كيانهم ولا يملكون إلا أن يطيعوه ولو على غير إرادة منهم!
ثم يقول إنه دائم التغير.. يحل اليوم ما حرمه الأمس.. ويحرم غدا ما أحله اليوم.. بلا ضابط ولا منطق معقول!