مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ، وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} 1.
ونلاحظ أَن الدعاة لم يكن لديهم إِلَّا محاولة إقناعهم، فَلَمَّا أَعرضُوا ولجوا فِي طغيانهم قَالَ لَهُم رسل عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَام - {وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} ، نَحن لَا نملك قهركم على الْحق، وَلَا نستطيع إرغامكم على الْإِيمَان بِهِ، وَإِنَّمَا نحاول إقناعكم، ونعمل مُخلصين على إرشادكم، وَلكم بعد ذَلِك الْخِيَار فِيمَا تختارون.
وَيطول الحوار، والدعاة يواجهون المضادة بِالصبرِ والحلم محاولين إِظْهَار الْحق فِي صور من المناقشة المتبادلة بَين الْفَرِيقَيْنِ.
يَقُول أَصْحَاب التيارات المضادة: {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} 2.
ويجيبهم الدعاة قائلين: {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} 3.
وَترى وَاضحا فِي كَلَام المدعوين أَنهم يتعللون بأوهام وأباطيل، ويحاولون لصق التهم بالدعاة، زاعمين أَن مَا يحل بهم من الْبلَاء إِنَّمَا هُوَ بِسَبَب وجود الدعاة بَينهم، وينسون أَنهم بابتعادهم عَن الْحق، وعداوتهم لأَهله، وإسرافهم فِي الغي يسْتَحقُّونَ مَا هم فِيهِ من الْبلَاء، بل وَأكْثر مِنْهُ.
ثمَّ نرى مِنْهُم لجوءا إِلَى حيل المفلسين من الْبَرَاهِين، والمصرين على الضلال من غير أَن يكون لديهم عَلَيْهِ حجَّة، فيهددون الدعاة باتخاذ أبشع أَنْوَاع التعذيب.
وَلَكِن الدعاة لَا يلتفتون إِلَى مثل ذَلِك التهديد، فهم يسمعونه فِي كل يَوْم، وهم مُؤمنُونَ بِأَنَّهُم لن يصيبهم إِلَّا مَا قدر لَهُم، ويعتقدون أَن أقْصَى مَا ينزل بهم هُوَ الْعَذَاب حَتَّى الْمَوْت، وَتلك هِيَ الشَّهَادَة الَّتِي يتمناها الدعاة المخلصون، لِأَنَّهَا تقربهم من غايتهم، حَيْثُ لَا يروي شَجَرَة النَّصْر إِلَّا الدِّمَاء، وَلَا يكْتب للدعوة النجاح إِلَّا إِذا قدمت الشُّهَدَاء، وَتلك سنة الله، وَلنْ تَجِد لسنة الله تبديلا.
وَلِهَذَا يحاول الدعاة رد الْأُمُور إِلَى أُصُولهَا، ويبينون أَن مَا ينزل بِالنَّاسِ إِنَّمَا هُوَ بِسَبَب انصرافهم عَن الْحق، ولجاجهم فِي الْبَاطِل؛ فَيَقُولُونَ فِي هدوء الواثق من الْحق، وطمأنينة الْمُؤمن بِالْقضَاءِ وَالْقدر: {طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} ، لسنا نَحن سَبَب مَا نزل بكم من الْقَحْط وَقلة الْمَطَر وَلَكِنَّكُمْ أسرفتم فِي الضلال، وتماديتم فِي الْبَاطِل؛ فاستوجبتم مَا حل بكم {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} .