وَهُوَ الْبَيَانُ الْمُسْتَلْزِمُ لِلْهِدَايَةِ الْخَاصَّةِ، وَهُوَ بَيَانٌ تُقَارِنُهُ الْعِنَايَةُ وَالتَّوْفِيقُ وَالِاجْتِبَاءُ، وَقَطْعُ أَسْبَابِ الْخِذْلَانِ وَمَوَادِّهَا عَنِ الْقَلْبِ، فَلَا تَتَخَلَّفُ عَنْهُ الْهِدَايَةُ الْبَتَّةَ، قَالَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} [النحل: 37] وَقَالَ {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56] فَالْبَيَانُ الْأَوَّلُ شَرْطٌ، وَهَذَا مُوجِبٌ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال: 23] وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} [فاطر: 19] وَهَذَا الْإِسْمَاعُ أَخَصُّ مِنْ إِسْمَاعِ الْحُجَّةِ وَالتَّبْلِيغِ، فَإِنَّ ذَلِكَ حَاصِلٌ لَهُمْ، وَبِهِ قَامَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ، لَكِنَّ ذَاكَ إِسْمَاعُ الْآذَانِ، وَهَذَا إِسْمَاعُ الْقُلُوبِ، فَإِنَّ الْكَلَامَ لَهُ لَفْظٌ وَمَعْنًى، وَلَهُ نِسْبَةٌ إِلَى الْأُذُنِ وَالْقَلْبِ وَتَعَلُّقٌ بِهِمَا، فَسَمَاعُ لَفْظِهِ حَظُّ الْأُذُنِ، وَسَمَاعُ حَقِيقَةِ مَعْنَاهُ وَمَقْصُودِهِ حَظُّ الْقَلْبِ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ نَفَى عَنِ الْكُفَّارِ سَمَاعَ الْمَقْصُودِ وَالْمُرَادِ الَّذِي هُوَ حَظُّ الْقَلْبِ، وَأَثْبَتَ لَهُمْ سَمَاعَ الْأَلْفَاظِ الَّذِي هُوَ حَظُّ الْأُذُنِ فِي قَوْلِهِ {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} [الأنبياء: 2] وَهَذَا السَّمَاعُ لَا يُفِيدُ السَّامِعَ إِلَّا قِيَامَ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ، أَوْ تُمَكِّنُهُ مِنْهَا، وَأَمَّا مَقْصُودُ السَّمَاعِ وَثَمَرَتُهُ، وَالْمَطْلُوبُ مِنْهُ فَلَا يَحْصُلُ مَعَ لَهْوِ الْقَلْبِ وَغَفْلَتِهِ وَإِعْرَاضِهِ، بَلْ يَخْرُجُ السَّامِعُ قَائِلًا لِلْحَاضِرِ مَعَهُ {مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [محمد: 16] .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ وَمَرْتَبَةِ الْإِفْهَامِ أَنَّ هَذِهِ الْمَرْتَبَةَ إِنَّمَا تَحْصُلُ بِوَاسِطَةِ الْأُذُنِ،