هَيْهَاتَ وَاللَّهِ، لَقَدْ ظَنَّ أَكْذَبَ الظَّنِّ، وَمَنَّتْهُ نَفْسُهُ أَبْيَنَ الْمُحَالِ، وَإِنَّمَا ضُمِنَتِ النَّجَاةُ لِمَنْ حَكَّمَ هُدَى اللَّهِ عَلَى غَيْرِهِ، وَتَزَوَّدَ التَّقْوَى وَائْتَمَّ بِالدَّلِيلِ، وَسَلَكَ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، وَاسْتَمْسَكَ مِنَ الْوَحْيِ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى الَّتِي لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.
وَبَعْدُ، فَلَمَّا كَانَ كَمَالُ الْإِنْسَانِ إِنَّمَا هُوَ بِالْعِلْمِ النَّافِعِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَهُمَا الْهُدَى وَدِينُ الْحَقِّ، وَبِتَكْمِيلِهِ لِغَيْرِهِ فِي هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَالْعَصْرِ - إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ - إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1 - 3] أَقْسَمَ سُبْحَانَهُ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ خَاسِرٌ إِلَّا مَنْ كَمَّلَ قُوَّتَهُ الْعِلْمِيَّةَ بِالْإِيمَانِ، وَقُوَّتَهُ الْعَمَلِيَّةَ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَكَمَّلَ غَيْرَهُ بِالتَّوْصِيَةِ بِالْحَقِّ وَالصَّبْرِ عَلَيْهِ، فَالْحَقُّ هُوَ الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ، وَلَا يَتِمَّانِ إِلَّا بِالصَّبْرِ عَلَيْهِمَا، وَالتَّوَاصِي بِهِمَا كَانَ حَقِيقًا بِالْإِنْسَانِ أَنْ يُنْفِقَ سَاعَاتِ عُمْرِهِ بَلْ أَنْفَاسَهُ فِيمَا يَنَالُ بِهِ الْمَطَالِبَ الْعَالِيَةَ، وَيَخْلُصُ بِهِ مِنَ الْخُسْرَانِ الْمُبِينِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا بِالْإِقْبَالِ عَلَى الْقُرْآنِ وَتَفَهُّمِهِ وَتَدَبُّرِهِ وَاسْتِخْرَاجِ كُنُوزِهِ وَإِثَارَةِ دَفَائِنِهِ، وَصَرْفِ الْعِنَايَةِ إِلَيْهِ، وَالْعُكُوفِ بِالْهِمَّةِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ الْكَفِيلُ بِمَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ، وَالْمُوَصِّلُ لَهُمْ إِلَى سَبِيلِ الرَّشَادِ، فَالْحَقِيقَةُ وَالطَّرِيقَةُ، وَالْأَذْوَاقُ وَالْمَوَاجِيدُ الصَّحِيحَةُ، كُلُّهَا لَا تُقْتَبَسُ إِلَّا مِنْ مِشْكَاتِهِ، وَلَا تُسْتَثْمَرُ إِلَّا مِنْ شَجَرَاتِهِ.
وَنَحْنُ بِعَوْنِ اللَّهِ نُنَبِّهُ عَلَى هَذَا بِالْكَلَامِ عَلَى فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَأُمِّ الْقُرْآنِ، وَعَلَى بَعْضِ مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ السُّورَةُ مِنْ هَذِهِ الْمَطَالِبِ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الرَّدِّ عَلَى جَمِيعِ طَوَائِفِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ، وَمَقَامَاتِ الْعَارِفِينَ، وَالْفَرْقِ بَيْنَ وَسَائِلِهَا وَغَايَاتِهَا، وَمَوَاهِبِهَا وَكَسْبِيَّاتِهَا، وَبَيَانِ أَنَّهُ لَا يَقُومُ غَيْرُ هَذِهِ السُّورَةِ مَقَامَهُا، وَلَا يَسُدُّ مَسَدَّهَا، وَلِذَلِكَ لَمْ يُنَزِّلِ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الْقُرْآنِ مِثْلَهَا.
وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، وَعَلَيْهِ الْتُكْلَانُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.