يَعْنِي أَنَّ هَذِهِ الْمُقَايَسَةَ وَالْمُحَاسَبَةَ تَتَوَقَّفُ عَلَى نُورِ الْحِكْمَةِ، وَهُوَ النُّورُ الَّذِي نَوَّرَ اللَّهُ بِهِ قُلُوبَ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ، وَهُوَ نُورُ الْحِكْمَةِ، فَبِقَدْرِهِ تَرَى التَّفَاوُتَ، وَتَتَمَكَّنُ مِنَ الْمُحَاسَبَةِ.
وَنُورُ الْحِكْمَةِ هَاهُنَا: هُوَ الْعِلْمُ الَّذِي يُمَيِّزُ بِهِ الْعَبْدُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ، وَالضَّارِّ وَالنَّافِعِ، وَالْكَامِلِ وَالنَّاقِصِ، وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَيُبْصِرُ بِهِ مَرَاتِبَ الْأَعْمَالِ، رَاجِحَهَا وَمَرْجُوحَهَا، وَمَقْبُولَهَا وَمَرْدُودَهَا، وَكُلَّمَا كَانَ حَظُّهُ مِنْ هَذَا النُّورِ أَقْوَى كَانَ حَظُّهُ مِنَ الْمُحَاسَبَةِ أَكْمَلَ وَأَتَمَّ.
وَأَمَّا سُوءُ الظَّنِّ بِالنَّفْسِ فَإِنَّمَا احْتَاجَ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ حُسْنَ الظَّنِّ بِالنَّفْسِ يَمْنَعُ مِنْ كَمَالِ التَّفْتِيشِ وَيُلَبِّسُ عَلَيْهِ، فَيَرَى الْمَسَاوِئَ مَحَاسِنَ، وَالْعُيُوبَ كَمَالًا، فَإِنَّ الْمُحِبَّ يَرَى مَسَاوِئَ مَحْبُوبِهِ وَعُيُوبَهُ كَذَلِكَ.
فَعَيْنُ الرِّضَى عَنْ كُلِّ عَيْبٍ كَلِيلَةٌ ... كَمَا أَنَّ عَيْنَ السُّخْطِ تُبْدِي الْمَسَاوِيَا
وَلَا يُسِيءُ الظَّنَّ بِنَفْسِهِ إِلَّا مَنْ عَرَفَهَا، وَمَنْ أَحْسَنَ ظَنَّهُ بِنَفْسِهِ فَهُوَ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ بِنَفْسِهِ.
وَأَمَّا تَمْيِيزُ النِّعْمَةِ مِنَ الْفِتْنَةِ: فَلْيُفَرِّقْ بَيْنَ النِّعْمَةِ الَّتِي يُرَى بِهَا الْإِحْسَانُ وَاللُّطْفُ، وَيُعَانُ بِهَا عَلَى تَحْصِيلِ سَعَادَتِهِ الْأَبَدِيَّةِ، وَبَيْنَ النِّعْمَةِ الَّتِي يُرَى بِهَا الِاسْتِدْرَاجُ، فَكَمْ مِنْ مُسْتَدْرَجٍ بِالنِّعَمِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ، مَفْتُونٍ بِثَنَاءِ الْجُهَّالِ عَلَيْهِ، مَغْرُورٍ بِقَضَاءِ اللَّهِ حَوَائِجَهُ وَسَتْرِهِ عَلَيْهِ! وَأَكْثَرُ الْخَلْقِ عِنْدَهُمْ أَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ عَلَامَةُ السَّعَادَةِ وَالنَّجَاحِ، ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ.
فَإِذَا كَمَلَتْ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ فِيهِ عَرَفَ حِينَئِذٍ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ بِجَمْعِهِ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ نِعْمَةٌ حَقِيقَةٌ، وَمَا فَرَّقَهُ عَنْهُ وَأَخَذَهُ مِنْهُ فَهُوَ الْبَلَاءُ فِي صُورَةِ النِّعْمَةِ، وَالْمِحْنَةُ فِي صُورَةِ الْمِنْحَةِ، فَلْيَحْذَرْ فَإِنَّمَا هُوَ مُسْتَدْرَجٌ، وَيُمَيِّزْ بِذَلِكَ أَيْضًا بَيْنَ الْمِنَّةِ وَالْحُجَّةِ، فَكَمْ تَلْتَبِسُ إِحْدَاهُمَا عَلَيْهِ بِالْأُخْرَى! .
فَإِنَّ الْعَبْدَ بَيْنَ مِنَّةٍ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَحُجَّةٍ مِنْهُ عَلَيْهِ، وَلَا يَنْفَكُّ عَنْهُمَا، فَالْحُكْمُ الدِّينِيُّ مُتَضَمِّنٌ لِمِنَّتِهِ وَحُجَّتِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [آل عمران: 164] وَقَالَ {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ} [الحجرات: 17] وَقَالَ {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام: 149] .