قَوْلِهِ " إِيَّاكَ " الذَّاتَ الْجَامِعَةَ لِجَمِيعِ صِفَاتِ الْكَمَالِ، الَّتِي لَهَا كُلُّ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، ثُمَّ يَشْهَدُ مِنْ قَوْلِهِ " نَعْبُدُ " جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، قَصْدًا وَقَوْلًا وَعَمَلًا وَحَالًا وَاسْتِقْبَالًا، ثُمَّ يَشْهَدُ مِنْ قَوْلِهِ " {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] " جَمِيعَ أَنْوَاعِ الِاسْتِعَانَةِ، وَالتَّوَكُّلِ وَالتَّفْوِيضِ، فَيَشْهَدُ مِنْهُ جَمْعَ الرُّبُوبِيَّةِ، وَيَشْهَدُ مِنْ " {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] " جَمْعَ الْإِلَهِيَّةِ، وَيَشْهَدُ مِنْ " إِيَّاكَ " الذَّاتَ الْجَامِعَةَ لِكُلِّ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَالصِّفَاتِ الْعُلَى.
ثُمَّ يَشْهَدُ مِنْ " اهْدِنَا " عَشْرَ مَرَاتِبَ، إِذَا اجْتَمَعَتْ حَصَلَتْ لَهُ الْهِدَايَةُ.
الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: هِدَايَةُ الْعِلْمِ وَالْبَيَانِ، فَيَجْعَلُهُ عَالِمًا بِالْحَقِّ مُدْرِكًا لَهُ.
الثَّانِيَةُ: أَنْ يُقْدِرَهُ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَهُوَ غَيْرُ قَادِرٍ بِنَفْسِهِ.
الثَّالِثَةُ: أَنْ يَجْعَلَهُ مُرِيدًا لَهُ.
الرَّابِعَةُ: أَنْ يَجْعَلَهُ فَاعِلًا لَهُ.
الْخَامِسَةُ: أَنْ يُثَبِّتَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَيَسْتَمِرَّ بِهِ عَلَيْهِ.
السَّادِسَةُ: أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ الْمَوَانِعَ وَالْعَوَارِضَ الْمُضَادَّةَ لَهُ.
السَّابِعَةُ: أَنْ يَهْدِيَهُ فِي الطَّرِيقِ نَفْسِهَا هِدَايَةً خَاصَّةً، أَخَصَّ مِنَ الْأُولَى، فَإِنَّ الْأُولَى هِدَايَةٌ إِلَى الطَّرِيقِ إِجْمَالًا، وَهَذِهِ هِدَايَةٌ فِيهَا وَفِي مَنَازِلِهَا تَفْصِيلًا.
الثَّامِنَةُ: أَنْ يُشْهِدَهُ الْمَقْصُودَ فِي الطَّرِيقِ، وَيُنَبِّهَهُ عَلَيْهِ، فَيَكُونَ مُطَالِعًا لَهُ فِي سَيْرِهِ، مُلْتَفِتًا إِلَيْهِ، غَيْرَ مُحْتَجَبٍ بِالْوَسِيلَةِ عَنْهُ.
التَّاسِعَةُ: أَنَّ يُشْهِدَهُ فَقْرَهُ وَضَرُورَتَهُ إِلَى هَذِهِ الْهِدَايَةِ فَوْقَ كُلِّ ضَرُورَةٍ.
الْعَاشِرَةُ: أَنْ يُشْهِدَهُ الطَّرِيقَيْنِ الْمُنْحَرِفَيْنِ عَنْ طَرِيقِهَا، وَهُمَا طَرِيقُ أَهْلِ الْغَضَبِ، الَّذِينَ عَدَلُوا عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ قَصْدًا وَعِنَادًا، وَطَرِيقُ أَهْلِ الضَّلَالِ الَّذِينَ عَدَلُوا عَنْهَا جَهْلًا وَضَلَالًا، ثُمَّ يَشْهَدُ جَمْعَ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ فِي طَرِيقٍ وَاحِدٍ عَلَيْهِ جَمِيعُ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ، وَأَتْبَاعِهِمْ مِنَ الصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ.
فَهَذَا هُوَ الْجَمْعُ الَّذِي عَلَيْهِ رُسُلُ اللَّهِ وَأَتْبَاعُهُمْ، فَمَنْ حَصَلَ لَهُ هَذَا الْجَمْعُ، فَقَدَ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ
قَالَ الشَّيْخُ: وَأَمَّا التَّوْحِيدُ الثَّالِثُ: فَهُوَ تَوْحِيدٌ اخْتَصَّهُ الْحَقُّ لِنَفْسِهِ، وَاسْتَحَقَّهُ لِقَدْرِهِ، وَأَلَاحَ مِنْهُ لَائِحًا إِلَى أَسْرَارِ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ صَفْوَتِهِ، وَأَخْرَسَهُمْ عَنْ نَعْتِهِ، وَأَعْجَزَهُمْ عَنْ بَثِّهِ.