الْمَشْهُودِ، وَالدَّلِيلُ عَيْنُ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ شَاهِدًا وَدَلِيلًا، وَفِي الِانْتِهَاءِ مَشْهُودًا وَمَدْلُولًا.
قَوْلُهُ: " وَلَا تَضْرِبُ رِيَاحُ الرُّسُومِ مَوْجُودَهُمْ " شَبَّهَ الرُّسُومَ بِالرِّيَاحِ؛ لِأَنَّ مَعَانِيَ الصُّوَرِ الْخَلْقِيَّةِ تَمُرُّ عَلَى أَهْلِ الشُّهُودِ الضَّعِيفِ، فَتُحَرِّكُ بَوَاطِنَهُمْ بِنَوْعٍ مِنَ الشَّكِّ وَالرَّيْبِ، فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ بَسَطَهُمُ الْحَقُّ تَعَالَى سَالِمُونَ مِنْ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: " فَهُمْ مُنْبَسِطُونَ فِي قَبْضَةِ الْقَبْضِ " أَيْ: هُمْ فِي حَالِ انْبِسَاطِهِمْ غَيْرُ مَحْجُوبِينَ عَنْ مَعَانِي الْقَبْضِ، بَلْ هُمْ مَبْسُوطُونَ بِقَبْضِهِ إِيَّاهُمْ عَنْ غَيْرِهِ، فَلَا يَتَنَافَى فِي حَقِّهِمُ الْبَسْطُ وَالْقَبْضُ، بَلْ قَبْضُهُمْ إِلَيْهِ فِي بَسْطِهِمْ، وَبَسْطُهُمْ بِهِ فِي قَبْضِهِمْ، وَجَعَلَ لِلْقَبْضِ قَبْضَةً تَرْشِيحًا لِلِاسْتِعَارَةِ.
قَالَ: وَطَائِفَةٌ بُسِطَتْ أَعْلَامًا عَلَى الطَّرِيقِ، وَأَئِمَّةً لِلْهُدَى، وَمَصَابِيحَ لِلسَّالِكِينَ.
إِنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ الْفِرْقَةُ أَعْلَى مِنَ الْفِرْقَتَيْنِ؛ لِأَنَّهَا شَارَكَتْهُمَا فِي دَرَجَتَيْهِمَا، وَاخْتَصَّتْ عَنْهُمَا بِهَذِهِ الدَّرَجَةِ، فَاتَّصَفَتْ بِمَا اتَّصَفَتْ بِهِ الْأُولَى مِنَ الْأَعْمَالِ، وَاتَّصَفَتْ بِمَا اتَّصَفَتْ بِهِ الثَّانِيَةُ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَزَادَتْ عَلَيْهِمَا بِالنَّفْعِ لِلسَّالِكِينَ، وَالْهِدَايَةِ لِلْحَائِرِينَ، وَالْإِرْشَادِ لِلطَّالِبِينَ، فَاهْتَدَى بِهِمُ الْحَائِرُ، وَسَارَ بِهِمُ الْوَاقِفُ. وَاسْتَقَامَ بِهِمُ الْحَانِدُ، وَأَقْبَلَ بِهِمُ الْمُعْرِضُ، وَكَمُلَ بِهِمُ النَّاقِصُ، وَرَجَعَ بِهِمُ النَّاكِصُ، وَتَقَوَّى بِهِمُ الضَّعِيفُ، وَتَنَبَّهَ عَلَى الْمَقْصُودِ مَنْ هُوَ فِي الطَّرِيقِ، وَهَؤُلَاءِ هُمْ خُلَفَاءُ الرُّسُلِ حَقًّا، وَهُمْ أُولُو الْبَصَرِ وَالْيَقِينِ، فَجَمَعُوا بَيْنَ الْبَصِيرَةِ وَالْبَصَرِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24] فَنَالُوا إِمَامَةَ الدِّينِ، بِالصَّبْرِ وَالْيَقِينِ.