بِصِدْقِ النُّورِ لِصِدْقِ شِدَّةِ تَعَلُّقِهِ بِالنُّورِ، وَمُلَازَمَتِهِ لَهُ.
قَوْلُهُ: " قَائِمٌ بِإِشَارَاتِ الْأَزَلِ " أَيْ: هَذَا النَّفَسُ مُنَزَّهٌ مُطَهَّرٌ عَنْ إِشَارَاتِ الْحُدُوثِ، فَقَدْ تَرَحَّلَ عَنْهَا وَفَارَقَهَا إِلَى إِشَارَاتِ الْأَزَلِ، وَيَعْنِي بِإِشَارَاتِ الْأَزَلِ أَنَّهُ قَدْ فَنِيَ فِي عِيَانِهِ الَّذِي شَخَصَ إِلَيْهِ مَنْ لَمْ يَكُنْ وَبَقِيَ مَنْ لَمْ يَزَلْ، فَصَارَتْ أَنْفَاسُهُ مِنْ جُمْلَةِ إِشَارَاتِ الْأَزَلِ.
وَلَمْ يُرِدِ الشَّيْخُ: أَنَّ أَنْفَاسَهُ تَنْقَلِبُ أَزَلِيَّةً، فَمَنْ هُوَ دُونَ الشَّيْخِ لَا يَتَوَهَّمُ هَذَا بَلْ أَنْفَاسُ الْخَلْقِ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَنْ لَمْ يَكُنْ، وَهَذَا نَفَسُهُ مُتَعَلِّقٌ بِمَنْ لَمْ يَزَلْ.
وَبَعْدُ، فَلِلْمُلْحِدِ هَاهُنَا مَجَالٌ، لَكِنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ وَهْمٌ بَاطِلٌ وَخَيَالٌ.
وَفِي قَوْلِهِ: " يُسَمَّى بِصِدْقِ النُّورِ " لَطِيفَةٌ، وَهِيَ أَنَّ السَّالِكَ يَلُوحُ لَهُ فِي سُلُوكِهِ النُّورُ مِرَارًا، ثُمَّ يَخْتَفِي عَنْهُ كَالْبَرْقِ يَلْمَعُ ثُمَّ يَخْتَفِي، فَإِذَا قَوِيَ ذَلِكَ النُّورُ وَدَامَ ظُهُورُهُ، صَارَ نُورًا صَادِقًا.
قَوْلُهُ: فَالنَّفَسُ الْأَوَّلُ: لِلْعُيُونِ سِرَاجٌ. وَالثَّانِي: لِلْقَاصِدِ مِعْرَاجٌ. وَالثَّالِثُ: لِلْمُحَقِّقِ تَاجٌ.
أَيِ: النَّفَسُ الْأَوَّلُ: سِرَاجٌ فِي ظُلْمَةِ السُّلُوكِ، لِتَعَلُّقِهِ بِالْعِلْمِ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَالْعِلْمُ سِرَاجٌ يُهْتَدَى بِهِ فِي طُرُقَاتِ الْقَصْدِ، وَيُوَضِّحُ مَسَالِكَهَا، وَيُبَيِّنُ مَرَاتِبَهَا، فَهُوَ سِرَاجٌ لِلْعُيُونِ.
وَالنَّفَسُ الثَّانِي: لِلْقَاصِدِ مِعْرَاجٌ، فَإِنَّهُ أَعْلَى مِنَ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ نُورِ الْمَعْرِفَةِ الرَّافِعَةِ لِلْحِجَابِ.
وَالنَّفَسُ الثَّالِثُ لِلْمُحَقِّقِ تَاجٌ؛ لِأَنَّهُ نَفَسٌ مُطَهَّرٌ مِنْ أَدْنَاسِ الْأَكْوَانِ، وَمُتَّصِلٌ بِالْكَائِنِ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَالْمُكَوِّنِ لِكُلِّ شَيْءٍ، وَالْكَائِنِ بَعْدَ كُلِّ شَيْءٍ، فَهَذَا تَاجٌ لِقَلْبِهِ بِمَنْزِلَةِ التَّاجِ عَلَى رَأْسِ الْمَلِكِ.
وَالنَّفَسُ الْأَوَّلُ يُؤَمِّنُ السَّالِكَ مِنْ عَثْرَتِهِ، وَالثَّانِي يُوصِلُهُ إِلَى طِلْبَتِهِ، وَالثَّالِثُ: يَدُلُّهُ عَلَى عُلُوِّ مَرْتَبَتِهِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.