وَلَا شَيْءَ أَحَقُّ أَنْ يَفْرَحَ الْعَبْدُ بِهِ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ، الَّتِي تَتَضَمَّنُ الْمَوْعِظَةَ وَشِفَاءَ الصُّدُورِ مِنْ أَدْوَائِهَا بِالْهُدَى وَالرَّحْمَةِ. فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ: أَنَّ مَا آتَى عِبَادَهُ مِنَ الْمَوْعِظَةِ - الَّتِي هِيَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ، الْمَقْرُونُ بِالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وَشِفَاءَ الصُّدُورِ الْمُتَضَمِّنَ لِعَافِيَتِهَا مِنْ دَاءِ الْجَهْلِ، وَالظُّلْمَةِ، وَالْغَيِّ، وَالسَّفَهِ - وَهُوَ أَشَدُّ أَلَمًا لَهَا مِنْ أَدْوَاءِ الْبَدَنِ، وَلَكِنَّهَا لَمَّا أَلِفَتْ هَذِهِ الْأَدْوَاءَ لَمْ تُحِسَّ بِأَلَمِهَا. وَإِنَّمَا يَقْوَى إِحْسَاسُهَا بِهَا عِنْدَ الْمُفَارَقَةِ لِلدُّنْيَا. فَهُنَاكَ يَحْضُرُهَا كُلُّ مُؤْلِمٍ مُحْزِنٍ. وَمَا آتَاهَا مِنْ رَبِّهَا الْهُدَى الَّذِي يَتَضَمَّنُ ثَلْجَ الصُّدُورِ بِالْيَقِينِ، وَطُمَأْنِينَةَ الْقَلْبِ بِهِ، وَسُكُونَ النَّفْسِ إِلَيْهِ، وَحَيَاةَ الرُّوحِ بِهِ. وَالرَّحْمَةَ الَّتِي تَجْلِبُ لَهَا كُلَّ خَيْرٍ وَلَذَّةٍ. وَتَدْفَعُ عَنْهَا كُلَّ شَرٍّ وَمُؤْلِمٍ.
فَذَلِكَ خَيْرٌ مِنْ كُلِّ مَا يَجْمَعُ النَّاسُ مِنْ أَعْرَاضِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا. أَيْ هَذَا هُوَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُفْرَحَ بِهِ. وَمَنْ فَرِحَ بِهِ فَقَدْ فَرِحَ بِأَجَلِّ مَفْرُوحٍ بِهِ. لَا مَا يَجْمَعُ أَهْلُ الدُّنْيَا مِنْهَا. فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمَوْضِعٍ لِلْفَرَحِ. لِأَنَّهُ عُرْضَةٌ لِلْآفَاتِ. وَوَشِيكُ الزَّوَالِ، وَوَخِيمُ الْعَاقِبَةِ، وَهُوَ طَيْفُ خَيَالٍ زَارَ الصَّبَّ فِي الْمَنَامِ. ثُمَّ انْقَضَى الْمَنَامُ. وَوَلَّى الطَّيْفُ. وَأَعْقَبَ مَزَارَهُ الْهِجْرَانَ.
وَقَدْ جَاءَ الْفَرَحُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى نَوْعَيْنِ. مُطْلَقٌ وَمُقَيَّدٌ.
فَالْمُطْلَقُ: جَاءَ فِي الذَّمِّ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص: 76] . وَقَوْلُهُ: {إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} [هود: 10] .
وَالْمُقَيَّدُ: نَوْعَانِ أَيْضًا. مُقَيَّدٌ بِالدُّنْيَا. يُنْسِي صَاحِبَهُ فَضْلَ اللَّهِ وَمِنَّتَهُ. فَهُوَ مَذْمُومٌ. كَقَوْلِهِ: {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44] .
وَالثَّانِي: مُقَيَّدٌ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ. وَهُوَ نَوْعَانِ أَيْضًا. فَضْلٌ وَرَحْمَةٌ بِالسَّبَبِ. وَفَضْلٌ بِالْمُسَبَّبِ، فَالْأَوَّلُ: كَقَوْلِهِ: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58] وَالثَّانِي: كَقَوْلِهِ: {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران: 170] .