فَإِنَّ الْوَاحِدَ أَقَلُّ مَا يُوجَدُ. فَإِذَا لَمْ يَصْحَبْهُ إِلَّا واحدٌ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ فِي غَايَةِ الْقِلَّةِ.
ثُمَّ قَالَ: { (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} ((?) . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَاحِبَهُ كَانَ مُشْفِقًا عَلَيْهِ مُحِبًّا لَهُ نَاصِرًا لَهُ حَيْثُ حَزِنَ، وَإِنَّمَا يَحْزَنُ الْإِنْسَانُ حَالَ الْخَوْفِ عَلَى مَنْ يُحِبُّهُ، وَأَمَّا عَدُوُّهُ فَلَا يَحْزَنُ إِذَا انْعَقَدَ سَبَبُ هَلَاكِهِ.
فَلَوْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ مبغِضا كَمَا يَقُولُ الْمُفْتَرُونَ لَمْ يَحْزَنْ وَلَمْ يَنْهَ عَنِ الْحُزْنِ، بَلْ كَانَ يُضْمِرُ الْفَرَحَ وَالسُّرُورَ، وَلَا كَانَ الرَّسُولُ يَقُولُ لَهُ: ((لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)) .
فَإِنْ قَالَ الْمُفْتَرِي: إِنَّهُ خَفِيَ عَلَى الرَّسُولِ حَالُهُ لَمَّا أَظْهَرَ لَهُ الحزن، وكان في الباطن مبغضا.
قِيلَ لَهُ: فَقَدْ قَالَ: {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} فَهَذَا إِخْبَارٌ بِأَنَّ اللَّهَ مَعَهُمَا جَمِيعًا بِنَصْرِهِ، وَلَا يَجُوزُ لِلرَّسُولِ أَنْ يُخْبِرَ بِنَصْرِ اللَّهِ لِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَهُمْ، وَيَجْعَلُ ذَلِكَ فِي الْبَاطِنِ مُنَافِقًا، فَإِنَّهُ مَعْصُومٌ فِي خَبَرِهِ عَنِ اللَّهِ، لَا يَقُولُ عَلَيْهِ إِلَّا الْحَقَّ.
وَأَيْضًا فَمَعْلُومٌ أَنَّ أَضْعَفَ النَّاسِ عَقْلًا لَا يخف عَلَيْهِ حَالُ مَنْ يَصْحَبُهُ فِي مِثْلِ هَذَا السفر، الذي يعاديه فيه الملأ الذين هو بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، وَيَطْلُبُونَ قَتْلَهُ، وَأَوْلِيَاؤُهُ هُنَاكَ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُ، فَكَيْفَ يَصْحَبُ وَاحِدًا مِمَّنْ يُظْهِرُ لَهُ مُوَالَاتَهُ دُونَ غَيْرِهِ، وَقَدْ أَظْهَرَ لَهُ هذا حزنه، وهو مع ذلك عدوّ فِي الْبَاطِنِ، وَالْمَصْحُوبُ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ وَلِيَهُ، وَهَذَا لَا يَفْعَلُهُ إِلَّا أَحْمَقُ النَّاسِ وَأَجْهَلُهُمْ.
فقبَّح اللَّهُ مَنْ نَسَبَ رَسُولَهُ، الَّذِي هُوَ أَكْمَلُ الْخَلْقِ عَقْلًا وَعِلْمًا وَخِبْرَةً، إِلَى مِثْلِ هَذِهِ الجهالة والغباوة.
وأما قول الرافضي: يجوز أن يستصحبه لِئَلَّا يَظْهَرَ أَمْرُهُ حَذَرًا مِنْهُ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ لَا يُمْكِنُ استتقصاؤها.
أَحَدُهَا: أَنَّهُ قَدْ عُلِمَ بِدَلَالَةِ الْقُرْآنِ مُوَالَاتُهُ له ومحبته، لا عداوته، فبطل ادعاؤه.
الثاني: أنه قد علم بالتواتر المعنوي أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ مُحِبًّا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم - مؤمنا به، ومن أَعْظَمِ الْخَلْقِ اخْتِصَاصًا بِهِ، أَعْظَمُ مِمَّا تَوَاتَرَ مِنْ شَجَاعَةِ عَنْتَرَةَ، وَمِنْ سَخَاءِ حَاتِمٍ وَمِنْ موالاة عليّ ومحبته به، ونحو ذلك من التواترات المعنوية التي اتفق فيها الأخبار الكثيرة على مقصود