فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْفَضِيلَةَ فِي الْغَارِ ظَاهِرَةٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: { (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} (?) ، فَأَخْبَرَ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ اللَّهَ مَعَهُ وَمَعَ صَاحِبِهِ. كَمَا قَالَ لِمُوسَى وهارون: { (إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} (?) .
وقد أخرجاه فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: نَظَرْتُ إِلَى إِقْدَامِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى رُؤُوسِنَا وَنَحْنُ فِي الْغَارِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إِلَى قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا. فَقَالَ: ((يَا أَبَا بَكْرٍ مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا)) (?) .
وَهَذَا الْحَدِيثُ مَعَ كَوْنِهِ مِمَّا اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ عَلَى صِحَّتِهِ وَتَلَقِّيهِ بِالْقَبُولِ وَالتَّصْدِيقِ، فَلَمْ يَخْتَلِفْ فِي ذَلِكَ اثْنَانِ مِنْهُمْ، فَهُوَ مِمَّا دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى مَعْنَاهُ، يَقُولُ: { (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} (?) .
وَهَذَا غَايَةُ الْمَدْحِ لِأَبِي بَكْرٍ إِذْ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مِمَّنْ شَهِدَ لَهُ الرَّسُولُ بِالْإِيمَانِ، الْمُقْتَضِي نَصْرَ اللَّهِ لَهُ مَعَ رَسُولِهِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ الَّتِي بَيَّنَ اللَّهُ فِيهَا غِنَاهُ عَنِ الْخَلْقِ، فَقَالَ: { (إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ
كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} (?) ، وَلِهَذَا قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَغَيْرُهُ: إِنَّ اللَّهَ عَاتَبَ الْخَلْقَ جَمِيعَهُمْ فِي نَبِيِّهِ إِلَّا أبا بكر. وقال: من أنكر صحبته أَبِي بَكْرٍ فَهُوَ كَافِرٌ لِأَنَّهُ كَذَّبَ الْقُرْآنَ، وَقَالَ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ كَأَبِي الْقَاسِمِ السهيلي وغيره. هذه المعية لَمْ تَثْبُتْ لِغَيْرِ أَبِي بَكْرٍ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ((مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا)) . بَلْ ظَهَرَ اخْتِصَاصُهُمَا فِي اللَّفْظِ كَمَا ظَهَرَ فِي الْمَعْنَى، فَكَانَ يُقَالُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ)) فَلَمَّا تَوَلَّى أَبُو بَكْرٍ بعده صاروا يقولون: ((خليفة رَسُولِ اللَّهِ)) فَيُضِيفُونَ الْخَلِيفَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، الْمُضَافِ إِلَى اللَّهِ، وَالْمُضَافُ إِلَى الْمُضَافِ، إِلَى الله مضاف إلى الله تَحْقِيقًا لِقَوْلِهِ: ((إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)) ، مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا. ثُمَّ لَمَّا تَوَلَّى عُمَرُ بَعْدَهُ صَارُوا يَقُولُونَ: ((أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ)) فَانْقَطَعَ الِاخْتِصَاصُ الذي امتاز به أبو بكر عن سائر الصحابة.
وَمَنْ تَأَمَّلَ هَذَا وَجَد فَضَائِلَ الصدِّيق الَّتِي في الصحاح كثيرة، وهي خصائص. مثل