الِاسْتِخْلَافِ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَإِنَّهُ قَدْ بلَّغ الْأُمَّةَ، وَهُوَ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِمْ طَاعَتُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَيُمْكِنُهُمْ أَنْ يُعَيِّنُوا مَنْ يؤمِّرونه عَلَيْهِمْ، كَمَا يُمْكِنُ ذَلِكَ فِي كُلِّ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ الَّتِي تَحْتَاجُ إِلَى وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ - عُلم أَنَّهُ لَا يلزم من وجوب الاستخلاف في الحياة بَعْدَ الْمَوْتِ.

الرَّابِعُ: أَنَّ الِاسْتِخْلَافَ فِي الْحَيَاةِ واجبٌ فِي أَصْنَافِ الْوِلَايَاتِ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَخْلِفُ عَلَى مَنْ غاب عنهم من يقيم فيهم الواجب.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الِاسْتِخْلَافَ لَا يَجِبُ بَعْدَ الْمَوْتِ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ، بَلْ وَلَا يُمْكِنُ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يعيِّن لِلْأُمَّةِ بَعْدَ مَوْتِهِ مَنْ يَتَوَلَّى كُلَّ أَمْرٍ جُزْئِيٍّ، فَإِنَّهُمْ يَحْتَاجُونَ إِلَى واحدٍ بَعْدَ وَاحِدٍ، وَتَعْيِينُ ذَلِكَ مُتَعَذِّرٌ.

الْوَجْهِ الْخَامِسِ: إِنَّ تَرْكَ الِاسْتِخْلَافِ بَعْدَ مَمَاتِهِ كَانَ أَوْلى مِنَ الِاسْتِخْلَافِ كَمَا اخْتَارَهُ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ، فَإِنَّهُ لَا يَخْتَارُ لَهُ إِلَّا أَفْضَلَ الأمور.

فعُلم أَنَّ تَرْكَ الِاسْتِخْلَافِ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ الْمَوْتِ أَكْمَلُ فِي حَقِّ الرَّسُولِ مِنَ الِاسْتِخْلَافِ، وَأَنَّ مَنْ قَاسَ وُجُوبَ الِاسْتِخْلَافِ بَعْدَ الْمَمَاتِ عَلَى وُجُوبِهِ فِي الحياة كان من أجهل الناس.

وَأَبُو بَكْرٍ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ أَنَّ الْأُمَّةَ يولُّون عُمَرَ إِذَا لَمْ يَسْتَخْلِفْهُ أَبُو بَكْرٍ. فَكَانَ مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ اللَّائِقَ بِهِ لِفَضْلِ عِلْمِهِ، وَمَا فَعَلَهُ صدِّيق الْأَمَةِ هُوَ اللَّائِقُ بِهِ إِذْ لَمْ يَعْلَمْ مَا عَلِمَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم -.

الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنْ يُقال: هَبْ أَنَّ الِاسْتِخْلَافَ وَاجِبٌ، فَقَدِ اسْتَخْلَفَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَا بَكْرٍ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ اسْتَخْلَفَهُ، وَدَلَّ عَلَى اسْتِخْلَافِهِ عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ.

وَقَوْلُهُ: ((لِأَنَّهُ لَمْ يَعْزِلْهُ عَنِ الْمَدِينَةِ)) .

قُلْنَا: هَذَا بَاطِلٌ، فَإِنَّهُ لَمَّا رَجَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انْعَزَلَ عليٌّ بِنَفْسِ رُجُوعِهِ، كَمَا كَانَ غَيْرُهُ يَنْعَزِلُ إِذَا رَجَعَ. وَقَدْ أَرْسَلَهُ بَعْدَ هَذَا إِلَى الْيَمَنِ، حَتَّى وافاه الموسم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ غَيْرَهُ.

أَفَتَرَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا مُقِيمًا وَعَلِيٌّ بِالْيَمَنِ، وَهُوَ خَلِيفَةٌ بِالْمَدِينَةِ؟!

وَلَا رَيْبَ أَنَّ كَلَامَ هَؤُلَاءِ كَلَامُ جَاهِلٌ بِأَحْوَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كَأَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّ عَلِيًّا مَا زَالَ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015