هَذَا الْمَعْصُومُ شَرِيكًا فِي النُّبُوَّةِ لَمْ يَكُنْ نائبا؛ فإنه إذا كَانَ يُوجب وَيُحَرِّمُ مِنْ غَيْرِ إِسْنَادٍ إِلَى نُصُوصِ النَّبِيِّ، كَانَ مُسْتَقِلًّا، لَمْ يَكُنْ مُتَّبِعًا لَهُ، وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا نَبِيًّا، فَأَمَّا مَنْ لَا يَكُونُ إِلَّا خَلِيفَةً لِنَبِيٍّ، فَلَا يَسْتَقِلُّ دُونَهُ.
وَأَيْضًا فَالْقِيَاسُ إِنْ كَانَ حُجَّةً جَازَ إِحَالَةُ النَّاسِ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً وَجَبَ أَنْ يَنُصَّ النَّبِيُّ عَلَى الْكُلِّيَّاتِ.
وَأَيْضًا فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {اليَوْمَ أَكْملْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ اْلإِسْلاَمَ دِينًا} (?) .
وَهَذَا نصٌ فِي أَنَّ الدِّينَ كَامِلٌ لَا يحتاج معه إلى غَيْرِهِ.
وَأَمَّا الْجُزْئِيَّاتُ فَهَذِهِ لَا يُمْكِنُ النَّصُّ عَلَى أَعْيَانِهَا، بَلْ لَا بُدَّ فِيهَا مِنَ الِاجْتِهَادِ الْمُسَمَّى بِتَحْقِيقِ الْمَنَاطِ، كَمَا أَنَّ الشَّارِعَ لَا يُمْكِنُ أَنْ ينصَّ لِكُلِّ مصلٍّ عَلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ فِي حقِّه، وَلِكُلِّ حَاكِمٍ عَلَى عَدَالَةِ كُلِّ شَاهِدٍ، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَإِنِ ادَّعَوْا عِصْمَةَ الْإِمَامِ فِي الْجُزْئِيَّاتِ، فَهَذِهِ مُكَابَرَةٌ، وَلَا يدَّعيها أَحَدٌ، فَإِنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يولِّي مَنْ تَبَيَّنَ لَهُ خِيَانَتُهُ وَعَجْزُهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَقَدْ قَطَعَ رَجُلًا بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ، ثُمَّ قَالَا: أَخْطَأْنَا. فَقَالَ: لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكُمَا تَعَمَّدْتُمَا لَقَطَعْتُ أَيْدِيَكُمَا.
وَكَذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: ((إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلىَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، وَإِنَّمَا أَقْضِي بِنَحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذْهُ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ له قطعة من النار)) (?) 2) .
الوجه الثاني عَشَرَ: أَنْ يُقال: الْعِصْمَةُ الثَّابِتَةُ لِلْإِمَامِ: أَهِيَ فعل لِلطَّاعَاتِ بِاخْتِيَارِهِ وَتَرْكُهُ لِلْمَعَاصِي بِاخْتِيَارِهِ، مَعَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عِنْدَكُمْ لَا يَخْلُقُ اخْتِيَارَهُ؟ أَمْ هِيَ خَلْقُ الْإِرَادَةِ لَهُ؟ أَمْ سَلْبُهُ الْقُدْرَةَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ؟
فَإِنْ قُلْتُمْ بِالْأَوَّلِ، وَعِنْدَكُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَخْلُقُ اخْتِيَارَ الْفَاعِلِينَ، لَزِمَكُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَقْدِرُ عَلَى خَلْقِ مَعْصُومٍ.
وَإِنْ قُلْتُمْ بِالثَّانِي بَطَلَ أَصْلُكُمُ الَّذِي ذَهَبْتُمْ إِلَيْهِ في القدرة.