وَأَمَّا قَوْلُهُ: ((وَقَاتَلَ عَلِيًّا وَهُوَ عِنْدَهُمْ رَابِعُ لخلفاء إِمَامٌ حَقٌّ، وَكُلُّ مَنْ قَاتَلَ إِمَامَ حقٍ فهو باغ ظالم)) .
فَيُقَالُ لَهُ: أَوَّلًا: الْبَاغِي قَدْ يَكُونُ مُتَأَوِّلًا مُعْتَقِدًا أَنَّهُ عَلَى حَقٍّ، وَقَدْ يَكُونُ مُتَعَمِّدًا يَعْلَمُ أَنَّهُ باغٍ، وَقَدْ يَكُونُ بَغْيُهُ مُرَكَّبًا مِنْ شُبْهَةٍ وَشَهْوَةٍ، وَهُوَ الْغَالِبُ. وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَهَذَا لَا يَقْدَحُ فِيمَا عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ؛ فَإِنَّهُمْ لَا يُنَزِّهُونَ مُعَاوِيَةَ وَلَا مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ مِنَ الذُّنُوبِ، فَضْلًا عَنْ تَنْزِيهِهِمْ عَنِ الْخَطَأِ فِي الِاجْتِهَادِ، بَلْ يَقُولُونَ: إِنَّ الذُّنُوبَ لَهَا أَسْبَابٌ تُدفع عُقُوبَتَهَا مِنَ التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ، وَالْحَسَنَاتِ الْمَاحِيَةِ، وَالْمَصَائِبِ المكفِّرة، وَغَيْرِ ذلك. وهذا أمر يعم الصحابة وغيرهم.
وَيُقَالُ لَهُمْ: ثَانِيًا: أَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ فَأَصْلُهُمْ مُسْتَقِيمٌ مُطَّرِدٌ فِي هَذَا الْبَابِ. وَأَمَّا أَنْتُمْ فَمُتَنَاقِضُونَ. وَذَلِكَ أَنَّ النَّوَاصِبَ - مِنَ الْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمُ - الَّذِينَ يُكَفِّرُونَ عَلِيًّا أَوْ يفسِّقونه أَوْ يَشُكُّونَ فِي عَدَالَتِهِ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْمَرْوَانِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، لَوْ قَالُوا لَكُمْ: مَا الدَّلِيلُ عَلَى إِيمَانِ عَلِيٍّ وَإِمَامَتِهِ وَعَدْلِهِ؟ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ حُجَّةٌ؛ فَإِنَّكُمْ إِنِ احْتَجَجْتُمْ بِمَا تَوَاتَرَ مِنْ إِسْلَامِهِ وَعِبَادَتِهِ، قَالُوا لَكُمْ: وَهَذَا
مُتَوَاتِرٌ عَنِ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ وَالْخُلَفَاءِ الثَّلَاثَةِ، وَخُلَفَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ كَمُعَاوِيَةَ وَيَزِيدَ وَعَبْدِ الْمَلِكِ وَغَيْرِهِمْ، وَأَنْتُمْ تَقْدَحُونَ فِي إِيمَانِهِمْ، فَلَيْسَ قَدْحُنَا فِي إِيمَانِ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ إِلَّا وقدحكم فِي إِيمَانِ هَؤُلَاءِ أَعْظَمَ، وَالَّذِينَ تَقْدَحُونَ أَنْتُمْ فِيهِمْ أَعْظَمُ مِنَ الَّذِينَ نَقْدَحُ نَحْنُ فِيهِمْ. وَإِنِ احْتَجَجْتُمْ بِمَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الثَّنَاءِ وَالْمَدْحِ. قَالُوا: آيَاتُ الْقُرْآنِ عَامَّةٌ تَتَنَاوَلُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَغَيْرَهُمْ مِثْلَ مَا تَتَنَاوَلُ عليًّا وأعظم مِنْ ذَلِكَ. وَأَنْتُمْ قَدْ أَخْرَجْتُمْ هَؤُلَاءِ مِنَ الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ فَإِخْرَاجُنَا عَلِيًّا أَيْسَرُ. وَإِنْ قُلْتُمْ بِمَا جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي فَضَائِلِهِ: قَالُوا: هَذِهِ الْفَضَائِلُ رَوَتْهَا الصحابة الذين رووا فضائل أولئك، فَإِنْ كَانُوا عُدُولًا فَاقْبَلُوا الْجَمِيعَ، وَإِنْ كَانُوا فسَّاقا فَإِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بنبأٍ فتبيَّنوا، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ فِي الشُّهُودِ: إِنَّهُمْ إِنْ شَهِدُوا لِي كَانُوا عُدُولًا، وَإِنْ شَهِدُوا عَلَيَّ كَانُوا فُسَّاقًا، أَوْ: إِنْ شَهِدُوا بِمَدْحِ مَنْ أَحْبَبْتُهُ كَانُوا عُدُولًا، وَإِنْ شَهِدُوا بِمَدْحِ مَنْ أبغضته كانوا فسَّاقا.