يُشِيرُ عَلَى عَلِيٍّ بِتَرْكِ الْقِتَالِ، وَهَذَا نَقِيضُ مَا عَلَيْهِ الرَّافِضَةُ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ الصُّلْحَ كَانَ مُصِيبَةً وَكَانَ ذُلًّا، وَلَوْ كَانَ هُنَاكَ إِمَامٌ مَعْصُومٌ يَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ طَاعَتُهُ، وَمَنْ تَوَلَّى غَيْرَهُ كَانَتْ وِلَايَتُهُ بَاطِلَةً لَا يَجُوزُ أَنْ يُجَاهَدَ مَعَهُ وَلَا يُصَلَّى خَلْفَهُ، لَكَانَ ذَلِكَ الصُّلْحُ مِنْ أَعْظَمِ الْمَصَائِبِ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِيهِ فَسَادُ دِينِهَا، فَأَيُّ فَضِيلَةٍ كَانَتْ تَكُونُ لِلْحَسَنِ بِذَلِكَ حَتَّى يُثنى عَلَيْهِ بِهِ؟ وَإِنَّمَا غَايَتُهُ أَنْ يُعذر لِضَعْفِهِ عَنِ الْقِتَالِ الْوَاجِبِ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ الْحَسَنَ فِي الصلح سيدا مَحْمُودًا،
وَلَمْ يَجْعَلْهُ عَاجِزًا مَعْذُورًا، وَلَمْ يَكُنِ الْحَسَنُ أَعْجَزَ عَنِ الْقِتَالِ مِنَ الْحُسَيْنِ بَلْ كَانَ أَقْدَرَ عَلَى الْقِتَالِ مِنَ الْحُسَيْنِ، وَالْحُسَيْنُ قَاتَلَ حَتَّى قُتل، فَإِنْ كَانَ مَا فَعَلَهُ الْحُسَيْنُ هُوَ الْأَفْضَلَ الْوَاجِبَ، كَانَ مَا فَعَلَهُ الْحَسَنُ تَرْكًا لِلْوَاجِبِ أَوْ عَجْزًا عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ مَا فَعَلَهُ الْحَسَنُ هُوَ الْأَفْضَلَ الْأَصْلَحَ، دَلَّ عَلَى أَنَّ تَرْكَ الْقِتَالِ هُوَ الْأَفْضَلُ الْأَصْلَحُ، وَأَنَّ الَّذِي فَعَلَهُ الْحَسَنُ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِمَّا فَعَلَهُ غَيْرُهُ، وَاللَّهُ يَرْفَعُ دَرَجَاتِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَكُلُّهُمْ فِي الْجَنَّةِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
ثُمَّ إِنْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَهُمَا إِمَامَيْنِ لَمْ يَكُونَا قَدِ اسْتَفَادَا الْإِمَامَةَ بِنَصِّ عَلِيٍّ، وَلَاسْتَفَادَهَا الْحُسَيْنُ بِنَصِّ الْحَسَنِ عَلَيْهِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ رَيْحَانَتَا النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الدُّنْيَا. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَدْخَلَهُمَا مَعَ أَبَوَيْهِمَا تَحْتَ الْكِسَاءِ، وَقَالَ: ((اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي فَأَذْهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وطهِّرهم تَطْهِيرًا)) وأنه دعالهما فِي الْمُبَاهَلَةِ، وَفَضَائِلُهُمَا كَثِيرَةٌ، وَهُمَا مِنْ أَجِلَّاءِ سَادَاتِ الْمُؤْمِنِينَ. وَأَمَّا كَوْنُهُمَا أَزْهَدَ النَّاسِ وَأَعْلَمَهُمْ فِي زَمَانِهِمْ فَهَذَا قَوْلٌ بِلَا دَلِيلٍ.
وَأَمَّا قوله: ((وَجَاهَدَا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ حَتَّى قُتِلَا)) .
فَهَذَا كَذِبٌ عَلَيْهِمَا، فَإِنَّ الْحَسَنَ تَخَلَّى عَنِ الْأَمْرِ وسلَّمه إِلَى مُعَاوِيَةَ وَمَعَهُ جُيُوشُ الْعِرَاقِ، وَمَا كَانَ يَخْتَارُ قِتَالَ الْمُسْلِمِينَ قَطُّ، وَهَذَا مُتَوَاتِرٌ مِنْ سِيرَتِهِ.
وَأَمَّا مَوْتُهُ، فَقَدْ قِيلَ: إنه مات مسموما، وهذه شَهَادَةٌ لَهُ وَكَرَامَةٌ فِي حَقِّهِ، لَكِنْ لَمْ يَمُتْ مُقَاتِلًا.
وَالْحُسَيْنُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا خَرَجَ يُرِيدُ الْقِتَالَ، وَلَكِنْ ظَنَّ أَنَّ النَّاسَ يُطِيعُونَهُ، فَلَمَّا رَأَى انْصِرَافَهُمْ عَنْهُ، طَلَبَ الرُّجُوعَ إِلَى وَطَنِهِ أَوِ الذَّهَابَ إِلَى الثَّغْرِ، أَوْ إِتْيَانَ يَزِيدَ، فَلَمْ يُمَكِّنْهُ أُولَئِكَ الظَّلَمَةُ لَا مِنْ هَذَا وَلَا مِنْ هَذَا، وَطَلَبُوا أَنْ يَأْخُذُوهُ أَسِيرًا إِلَى يَزِيدَ،